قضايا وآراء

العملية الروسية في سورية: الخلفيات والآفاق

عبد المنعم علي عيسى :

تشير الأحداث –كما السياق العام لها- إلى أن التدخل العسكري الروسي كان قد حسم أمره منذ الخريف الماضي على الأقل، ليترك اختيار التوقيت بانتظار اللحظة السياسية المناسبة التي تحتّم نجاحه، ربما يعود ذلك القرار إلى لقاء وزير الخارجية السوري مع الرئيس الروسي في موسكو 26/11/2014، وفيه استطاع الإعلام رصد ظاهرة لربما تحليلها كان صحيحاً، فقد وزعت وسائل الإعلام الروسية صورة واحدة فقط يظهر فيها فلاديمير بوتين مصافحاً الوزير وليد المعلم وفي يده اليسرى (يد بوتين) كان يحمل كرّاسة من النوع الذي يستخدم عادة لتسجيل الملاحظات المهمة- والطويلة- الأمر الذي قرأه العديد من المحللين بأن بوتين كان يستعد لتسجيل قائمة الطلبات السورية أكثر مما كان يستعد لإجراء حوار حول المستجدات، آنذاك تم تمديد زيارة الوفد السوري مدة 24 ساعة عقد فيها المعلم مع الرئيس بوتين اجتماعاً مغلقاً لم يكشف عن محتواه إلا أنه بالتأكيد لم يكن في مناقشة تصريحات منذر ماخوس التي تنضح حقداً وحقداً فقط، أو لمناقشة تصريحات أحمد الجربا التي كانت تنمّ عن جهل سياسي لم يكن يبرّره سوى جهل مشغليه.
تكرر اللقاء في 29/6/2015 وفيه أطلق بوتين مبادرته «المعجزة» التي كانت بمنزلة جس نبض لكل من الرياض وأنقرة أريد منه تحديد مدى استعدادهما للدخول في تسوية سياسية من شأنها أن تؤدي إلى حل الأزمة السورية.
عندما جرى ذلك اللقاء الثلاثي الشهير بين لافروف وكيري وعادل الجبير في الدوحة 3/8/2015 كان هناك وفد عسكري سوري رفيع المستوى يزور موسكو في مؤشر يدل -كما نرى- على أن ما تأتي به الدبلوماسية الروسية لم يكن كافياً لقيام حالة ستاتيكو عسكرية ما بين دمشق وموسكو، شيئاً فشيئاً بدأت تترسخ قناعة قاطعة لدى الروس بأن الرياض –ومعها أنقرة- ليس لديها سوى التصعيد في سورية لاعتبارات عديدة تفوق بكثير تلك المعلن عنها، ومع ذلك فقد ترك الأمر كما يبدو لاجتماع الفرصة الأخيرة الذي ستشكله زيارة عادل الجبير إلى موسكو 11/8/2105، وفيها عمد هذا الأخير إلى تصعيد كان غير مسبوق وهو -كما نرى أيضاً-ما دفع لافروف إلى القول: «إن التهديد بإسقاط الرئيس الأسد عسكرياً يشكل عدواناً على سورية» على حين ذهبت الصحف الروسية المقربة من دوائر القرار إلى القول «إن وجود الجبير على رأس الدبلوماسية السعودية يمثل دليلاً على استمرار غيبوبتها».
وفيما تبقى من الصيف المنصرم بعد ذلك اللقاء جهدت موسكو في سعيها نحو إحداث تحوّل في الموقفين السعودي والتركي أو أحدهما، الأمر الذي يقتضي أن يتبعه الآخر، ولقد بدا لوهلة قصيرة أن ذلك المسعى الروسي قد تكلل بالنجاح عندما خرج رجب طيب أردوغان من جامع موسكو الكبير ليعلن أن الحل في سورية يمكن أن يكون مع الأسد، قبل أن ينقلب على ذلك التصريح في أقل من نصف يوم عندما زاره في أنقرة تميم بن حمد حيث تخلل ذلك اللقاء اتصال أجراه أردوغان مع العاهل السعودي ليعلن سريعاً أن تصريحاته قد فهمت خطأ.
قدمت موسكو العديد من الإغراءات الاقتصادية لأنقرة التي كانت بأمس الحاجة إليها بعد فقدانها للبوابة السورية التي شكلّت مدخلاً لبحبوحة اقتصادية نعمت بها أنقرة على مدار ما يقرب من العقد، شملت الإغراءات الروسية تزويد تركيا بالغاز بأسعار مخفضة 10% من قيمتها الحقيقية في الأسواق (تركيا تعتمد بنسبة 65% على الغاز الروسي)، كما شملت ذهاب بوتين نفسه إلى الإعلان عن إلغاء مشروع النفق الجنوبي في مطلع عام 2014 واستبدال به آخر يحمل الغاز الروسي إلى كامل أوروبا مروراً بتركيا (عاد بوتين في تشرين الثاني 2014 إلى مشروع النفق الجنوبي الأول بعد مواقف أنقرة المتشددة) أيضاً جهدت موسكو في إقناع السعوديين ولم تلق سوى المماطلة التي تليها مماطلة ليتأكد فيما بعد أن السعوديين لم يفقدوا آمالهم في تخلي موسكو عن دمشق حتى ما قبل أقل من شهر على بدء الضربات الجوية الروسية في سورية.
من الممكن أن يقرأ التشدد السعودي والتركي على أنه نتج بالضرورة عن حالة تراخٍ أميركية حيال دمشق كانت بادية للعيان فكيف الأمر إذاً بما كان يجري تحت الطاولة كما يقال.
تأخر التدخل الروسي لأسباب عديدة لعل أهمها أنها كانت تحتفظ على الدوام بعلاقات «إيجابية» مع جميع الفرقاء في المعارضة السورية وكذلك مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية، كان ذلك التأخر يمثل فرصة طويلة لمراجعة الخصوم لحساباتهم وتغليب لصوت العقل وخصوصاً أن جميع الطروحات الروسية كانت تندرج في سياق تسوية سياسية لا رابح فيها ولا مهزوم.
اليوم تشير التصريحات الأميركية المنضبطة تجاه العملية الروسية في سورية إلى أن هناك تفاهماً روسياً- أميركياً ربما حدث في لقاء لافروف مع كيري 29/9/2015 على هامش اجتماعات الدورة 70 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو تفاهم يطول الأزمتين الأوكرانية والسورية كما تشير إلى ذلك بعض المؤشرات، فبعد يومين فقط من بدء الضربات الروسية «أي 3/10/2015» حدث ما يشير إلى هذا عندما أعلنت المجموعات الأوكرانية المسلحة الموالية لموسكو عن البدء بسحب دباباتها عن خطوط الجبهة في شرق أوكرانيا هكذا ومن دون أي مقدمات، ومن الممكن أيضاً رصد حالة الاسترخاء الأميركية التي قابلت بها واشنطن العملية الروسية وهو ما يؤكد أيضاً وجود هذا التفاهم المشار إليه، وإن كانت التصريحات الأميركية تؤكد أنه التفاهم المفترض أولي أو مؤقت فقد أعلن آشتون كارتر 2/10/2015 أن واشنطن لن تقوم بالتنسيق مع موسكو فيما يخص الحرب على الإرهاب في سورية، وهو أمر لا يمكن فهمه إلا عبر التوصيف السابق «تفاهم أولي» ذي المجالات الضيقة، ولا هو يعلي السقف الأميركي من جهة، ولا هو يذهب باتجاه التنسيق مع موسكو على الرغم من أن الهدف الذي تسعى إليه أسراب الطائرات الروسية ونظيرتها الأميركية هو هدف واحد أقله فيما هو معلن.
لا يذكر التاريخ أن التحولات الكبرى قد حدثت بسبب توافقات- أو تفاهمات- سياسية فيما بين القوى المتصارعة حتى إن استجداء التفاهم كان يمثل في كثير من الأحيان سبباً رئيسياً في الذهاب نحو الحرب كما حدث في تجربة نيفيل تشمبرلين «رئيس وزراء بريطانيا» الذي وقع اتفاق سلام مع برلين خريف عام 1938 أملاً في أن يكون ذلك مانعاً أمام قيام هتلر بشن هجومه على بلاده، الأمر الذي نظر إليه هذا الأخير على أنه يمثل منتهى الضعف البريطاني، فاندفع إلى إعلان الحرب على بريطانيا 3 أيلول 1939 إلا أنه يذكر أن الحروب كانت على الدوام تمثل مفتاحاً لكل التحولات الكبرى ما يمكن أن تؤدي إليه العملية الروسية في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن