عبارة ما إن ينطق بها أي شخص حتى تنهال عليه سهام التكفير، كيف لا وهو يرفض الروحانيات ويركّز في الماديّات، ليبدأ الجدال المتكرر في هذا الشرق البائس بين فئتين لا يقلّ أيّ منهما تطرفاً عن الآخر، مع الأخذ بالعلم أن هذا الجدال ارتفعت أسهمه هذه الأيام لكون العالم بأسره يقف على قدم واحدة بانتظار الحلّ القادم من أي جهة يريح البشرية من خطر فيروس كورونا.
الفئة الأولى تمثل من يدّعون أنهم يفكرون خارج «سياسة القطيع» ويعايرون أصحاب العقائد الإيمانية باستسلامهم للخرافات كحديث «جناح الذبابة» أو بدعة تقديم «النقل على العقل»، وغاب عن ذهن هؤلاء أن من يرفضون هذه البدع أكثر بكثير من المستسلمين لها ليثبتوا لنا بأن تشويه الأديان يبدأ من حديث اللئيم بلسان جاهل.
الفئة الثانية تتمثل بطبقة من يظنون أن اللـه لم يهد سواهم ويرفعون شعار «لن يصيبنا إلا ما كتب اللـه لنا» هؤلاء يتجاهلون أن آلية فهم كهذه للآية القرآنية تحوّل الإنسان إلى مسيّر لا مخيّر وهذا ما يتعارض مع الآية القرآنية «وهديناه النّجدين»، أو قوله تعالى «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، هؤلاء تناسوا كل هذا وبدؤوا يتساءلون: هل هذا الوباء جند من الله؟
إن البحث عن حلول فعّالة للكورونا يجب أن يسير بالسياق ذاته مع البحث عن حلول للفيروسات الفكرية التي تنتشر بين ظهرانينا، فالإيمان بالعلم لا يلغي الانتماء للحالة الروحانية وإن كان المصاب بفيروس كورونا يحتاج لحجر صحي فإن المصابين بفيروسات كهذه بحاجة لحجر فكري حتى لا تلوث أفكارهم نقاء المجتمع، ليكون تعقيم المجتمعات من لوثات كهذه، تنثر الحقد أينما حلّت، جزءاً لا يتجزأ من تطويع الأزمات باتجاه إعادة ترتيب أولوياتنا، تحديداً أن هذه الأزمة حتى على مستوى الدول المتطورة كشفت آلاف العيوب، ومن المؤكد أن سورية ليست استثناء.
منذ بدأت الإجراءات الحكومية لمواجهة احتمالية وصول الفيروس إلى سورية بدت فعلياً بأنها استثنائية وتستحقّ الثناء، بل إن البدء قبل تسجيل أي حالة هو بحدّ ذاته إنجاز، لكنها للأسف كانت دائماً عرضة للترهل والخلل الذي لا يتيح لنا وفق الإمكانات المتاحة اتخاذ إجراءات مغلقة تضمن حسن التطبيق وعلى الجميع، فبتنا كمن يحاول ملء جعبة ماء متعددة الثقوب، فمثلاً لا يمكننا الطلب من العامل المياوم الذي يأكل مما يكسب أن يبقى في المنزل، هل يموت وعائلته من الجوع؟ القضية ليست مرتبطة فقط بالأشخاص لكنها مرتبطة بسوء التخطيط فكيف لنا مثلاً أن ننتظر نتائج ملموسة من حملات التعقيم والتطهير التي نثمنها، وفي الوقت ذاته لا توجد خطة واضحة لفرز وتجميع القمامة والاستفادة منها بتحويلها لمادة قابلة لإعادة التدوير تغطي على الأقل مصاريف جمعها وترحيلها بأوقات محددة، هل ندرك أن وجود خطة كهذه أهمّ من التخطيط لإعادة بناء عشرات الأحياء التي يسمونها راقية؟ ماذا عن ميزانية البحث العلمي أين هي؟ هل يعقل أن سورية الولادة والتي غزت العالم بطاقاتها الطبية لا يوجد لديها أي محاولة لابتكارات طبية بدل صرف الميزانيات على ما يسهم في تحجيم العقل؟
في الخلاصة: أنا أصدّق العلم نعم، لكني أصدقه عندما يكون عبارة عن سياسة دولة، بل وأصدق النظام السياسي والإداري والقانون الوضعي أيضاً لأنه أكثر ما يمكن أن يجعل الناس تلتزم، واهم من يظن أن من التزم في الكثير من الدول الأوروبية التزم طواعيةً، التزامه ناتج عن خوفه من القانون وليس خوفه من «القضاء والقدر» أو «الجنة والنار» هكذا نستطيع أن نوظّـــف العلم بما يعيد بناء المجتمع أما الروحانيات فدعوها في قلوبكم.. ومنازلكم.