ثقافة وفن

لكل أمهات سورية أوجه التحية وأنحني وأقول: «لَكُن المجد يركع» … البطل صدقي المقت لـ «الوطن»: قضية تحرير الجولان أنبل قضية في هذا الكون

| سيلفا رزوق- عطا فرحات

سوري حتى النخاع.. مناضل أبدع بالمقاومة.. وقف في وجه الاحتلال بإيمان وعزيمة صلبة لا تهتز.. قرر أنه لن يهنأ له عيش طالما أن العدو يحتل أرضه، وآمن بحتمية عودة الجولان إلى حضن الوطن الأم سورية.
في حريته التي نالها بعد قضائه 32 عاماً في سجون الاحتلال، عبّر عن الإرادة السورية وإرادة كل السوريين، الذين أبوا الظلم والاحتلال وناضلوا في سبيل كرامتهم.
مع بداية هذا العام أطلق الاحتلال الإسرائيلي سراح الأسير صدقي المقت، الذي كان رفض إطلاق سراحه المشروط، والقاضي بإبعاده عن الجولان السوري المحتل ومسقط رأسه، مشدداً على تمسكه بهويته وحقه بالحياة في منزله ببلدته، ليغادر سجون الاحتلال إلى مسقط رأسه في بلدة مجدل شمس الشامخة المحتلة.

البطل المقت كان أفرج عنه للمرة الأولى في آب من عام 2012 بعد 27 عاماً قضاها في معتقلات الاحتلال، الذي أعاد اعتقاله في الـ25 من شباط من عام 2015 بعد اقتحام منزل عائلته في بلدة مجدل شمس، وأصدرت محاكم الاحتلال في الـ16 من أيار عام 2017 قراراً بسجنه 14 عاماً بعد تأجيل محاكمته الصورية عشرات المرات.
المقت كان من أوائل الجولانيين الذين أسسوا تنظيم حركة المقاومة السري بالجولان في الثمانينيات، حيث بدأت انتفاضة الأهالي الرافضين لسلخهم عن وطنهم الأم سورية، فقام مع عدد من رفاقه الأبطال ومنهم شقيقه بشر، وعاصم الولي، والشهيدان هايل أبو زيد وسلطان الولي، بمقاومة المحتل وأنجزوا عمليات بطولية منها عملية «بئر الحديد» التي فُجّرت فيها مخازن أسلحة للاحتلال، ليقوم العدو بشن حملة اعتقال على إثرها اعتقل فيها شباب الجولان ومنهم الأسير المحرر صدقي المقت 1985 ووجهت له تهمة «المقاومة».
المقت وهو من مواليد عام 1967، ينحدر من عائلة رفضت دوماً الاحتلال الإسرائيلي للجولان حيث تم اعتقال والده سليمان المقت أكثر من مرة ولفترات متباعدة وكذلك أخواه فخري وبشر.
عند خروج البطل المقت من الأسر سارع إلى قبر والدته، التي ضحت وعانت، وبصوت مفعم بالعزيمة والتحدي والألم والصبر على فقدان والدته تحدث البطل المقت لـ«الوطن» عن لحظات دقيقة وصعبة عاشها في أسره، وهو يتابع بألم وحسرة حالة والدته التي كانت على فراش الموت، في حين هو يئن شوقاً وحنيناً لصوتها وحنانها ورائحتها، وكيف بحث عن أمه وصوتها وروحها وخطاها في قبرها بين الحجارة الصامتة، وكيف أخذ يحدث تلك الحجارة ويحنو عليها كأنها تراه وتسمعه وتشعر به وبحزنه الدفين، الذي يعشعش في ثنايا روحه الطامحة والجامحة والتواقة للحرية والحياة والنور.
البطل صدقي المقت خص صحيفة «الوطن» بمقابلة تحدث بها عن نشأته الأولى وطريق النضال والأسر ووقع نبأ معرفته بوفاة والدته وهو في الأسر وفيما يلي نص المقابلة:

الأم كانت المدرسة الأولى التي من خلالها تعلمت جغرافيا الوطن، وجذورك ممتدة إلى قرية إمتان في السويداء، كيف كانت تلك الدروس وكيف تصف شعورك بأنك حرمت من كلمة خالي وخالتي وجدي وجدتي؟
نشأت في بيت نصفه في الجولان المحتل ونصفه الآخر داخل الوطن، مثله مثل كل بيت في الجولان السوري المحتل بفعل الاحتلال الذي قسم الوطن، وقسم الأسر، وقسم كل شيء، من خلال أمي تعرفت على النصف لآخر من البيت، من خلال أحاديثها تعرفت على قصص إمتان وشوارع إمتان وبيت جدي وأخوالي وخالاتي وكل قصص قرية إمتان، أتخيل من خلال تلك الأحاديث أني زرت هذه القرية، كنت أسمع تنهيدات وحسرات والدتي ولم أكن أعرف كم هي عميقة، وأدركت عندما كبرت أن في داخل أمي ليس فقط جرحاً عائلياً وإنما جرح الوطن مزروع في داخلها إطلالتي على الانتماء لوطني كان من خلال أمي معرفتي بالوطن من خلال أمي ومعرفتي بجرح الوطن كان من خلال أمي.

خلال فترات اعتقالك كانت أول الزائرين لك في السجن، حتى إنها باتت تعرف جغرافيا فلسطين من شدة تنقلاتك، كيف تصف الزيارة في مراحل الاعتقال الأولى، ولاحقاً خلال الاعتقال والتنقلات والسنوات الأخيرة عبر الهاتف؟
عندما اعتقلت بدأت مرحلة جديدة في حياتي ونافذتي للعالم كانت غرفة الزيارة في النصف الأول من الاعتقال بين عامي 1985 و2004 كانت الزيارة تتم عبر شبك، كان يوجد شبك يفصلني عن أهلي أمي وعن مجمل الزائرين الآخرين، وعبر هذه الزيارة كنا نستقي كل شيء، معلومات عن الحياة خارج السجن، تطورات الأوضاع في الجولان خارج السجن، أخبار البلد والجولان وكل شيء وأيضاً عبر هذا الشبك الصغير كانت تصلنا الشحنة المعنوية من خلال أمي، وجميع أفراد الأسرة كانوا يجلسون أمامي ويمدونني بكل عناصر الصمود وبالدعاء والابتسامة والحسرة، وأتذكر في المراحل الأولى لاعتقالي وكنا صغاراً وقتها، كانت تهرّب لي الأكل، حيث كان هناك الكثير من الأصناف الممنوعة علينا داخل السجن، وكانت والدتي ومعها عدد من الأمهات يجهزن هذه الأصناف ويهربنها داخل ثيابهن وأثناء الزيارة كن يدخلن لنا هذه الأصناف عبر فتحات صغيرة بالشبك.
وكانت والدتي مثل العصفورة التي تطعم ابنها في القفص مثلها مثل كل أمهات الأسرى، وأنا مهما تحدثت لن أتمكن من وصف تلك المشاعر في سجن الدامون وفي سجن الجلبي وجميع السجون عندما كانت تحضر والدتي ولم تنقطع ولا في أي زيارة، حيث كانت تحضر من أقصى شمال البلاد في الجولان السوري المحتل إلى أقصى جنوب فلسطين المحتلة في سجن بير السبع وفي سجن عسقلان، وأحياناً في فصل الشتاء والشوارع مغلقة بفعل الثلج، كانت الأسر تخرج قبل يوم بهدف التمكن من عبور الطرقات واستكمال زيارتهم لسجن عسقلان أو النفحة، فأحياناً كانت تستغرق الزيارة يومين والتي كانت تحصل يوم الجمعة، حيث كانت الأسر تخرج من بيوتها من يوم الخميس وفي اليوم الثاني يستأنفون السفر إلى السجن الذي كنت أتواجد فيه، فوالدتي دخلت من أجلي إلى كل السجون وطرقت كل أبواب السجون من أجل زيارتي وتعرفت على كل غرف الزيارات في كل السجون، تعرفت على الطرق والمفارق المؤدية للسجون وعلى الأشجار وكل تعرجات هذه الشوارع وكل تضاريس فلسطين، كانت تحكي لي عن كل شيء، كانت تقطع كل هذه المسافة لكي تراني لنصف ساعة وبعد إضراب عام 1992 تمكن الأسرى من رفع مدة الزيارة وانتزعنا هذا الإنجاز من إدارة سجن الاحتلال، وأصبح وقت الزيارة 45 دقيقة، ولكي أحصل على مدة زيارة 45 دقيقة، كان يلزم هذا ساعات سفر طويلة للأسرة، ولكل أسر الأسرى، وانتظار على أبواب السجون لساعات في الحر الشديد بالصيف والبرد الشديد في الشتاء، ثم داخل السجن انتظار قد يصل لساعات كي تبدأ الزيارات لمدة 45 دقيقة، وأنا كنت أعود لسريري في حين والدتي وأسر باقي الأسرى كان يلزمهم أيضاً ساعات وساعات للانتظار داخل السجن وخارج السجن والسفر لساعات طويلة لمدة 5 ساعات حتى تصل للمنزل.
والدتي لم تتذمر ولا مرة ولم تشكُ ولا مرة من التعب، وعندما كنا في سجن الجنوب كنا نسأل الأهالي ووالدتي ألم تتعبوا، كان الجواب يأتي «لا… هذا سجن وهناك سجن… المسافة واحدة والظرف واحد»، كان الأهالي يحاولون إيصال رسالة الصمود حتى لا نضعف داخل السجن، وكانت والدتي تدخل إلى غرفة الزيارة وهي بكامل نشاطها مخفية حجم التعب الذي تكبدته حتى لا أضعف، وعندما جرى نقلنا إلى سجون الشمال، سألنا الأهالي في إحدى الزيارات، وسألت أمي كيف كانت الزيارات عندما كنا في السجون الجنوبية، ووقتها فقط عرفت وبعد 15 عاماً حجم التعب والضغط الذي كانت تتكبده هي والأهالي للوصول إلى سجون الجنوب.

كيف تصف لحظة إخبارك بوفاة والدتك وأنت داخل السجن ولا تستطيع إلقاء النظرة الأخيرة عليها؟
أصعب خبر تلقيته بحياتي كان وفاة أمي، وكنت وقتها في سجن النقب في قسم تسعة، وكان يوجد هواتف مهربة، وكنت أتابع الوضع الصحي لوالدتي عبر الهاتف، وهناك داخل خيمة صغيرة، في سجن النقب في القسم تسعة والساعة الواحدة والنصف ليلاً تلقيت خبر وفاة أمي، في ذات اللحظة التي حصلت فيها الوفاة، فمن أصعب الأمور أن تفقد شخصاً عزيزاً من أسرتك، وأن تفقد والدتك وأنت هناك في أقصى جنوب فلسطين بعيداً عن كل شيء في داخل خيمة محاطة بأسوار وسط الصحراء، كان عليك فقط أن تتلقى خبر وفاة والدتك، وتحمل هذا الجرح وبصعوبة كان يتاح للإنسان أن يأخذ خصوصية صغيرة ليبكي أمه، وأنا هناك في سجن النقب بكيت أمي، وهناك جاء بقية زملائي الأسرى لتعزيتي، جزء منهم بعد منتصف الليل وجزء منهم في صباح اليوم التالي جاء لتعزيتي، وضمن عاداتنا نحن الأسرى، أقمنا بيت عزاء في سجن النقب، وألقيت الكلمات وعشت وفاة أمي وسط الأسرى بعيداً عن الجولان والأهل، ومسار الجنازة، من دون أن أقبّل أمي، وأن أودعها وألقي نظرة الوداع المباشرة من دون أن أحمل النعش وأذهب للمقبرة، من دون أي من هذه التفاصيل، فقط أنا والخيمة والصحراء.

لحظة تحررك وقبل وصولك إلى المنزل كانت محطتك بجانب ضريح والدتك، صف تلك اللحظات.
في اليوم الذي تحررت فيه لم يكن بالإمكان أن أدخل للبيت قبل زيارة قبر أمي، ذهبت إلى المقبرة كي أخبر أمي أني تحررت، لكني زرت مكاناً صامتاً لم يتكلم ووقفت أمام حجارة أبحث عن أمي ولم أجدها، وأنا أعرف أنها مدفونة هناك لامست حجراً وقبلت حجراً، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أقبل قدمها أو ألامس قدمها، أو أن أقترب من أذنها وأهمس «أمي أنا تحررت»، لكني لم أستطع إلا الوقوف هناك على بعد خطوة من القبر وأن أتحدث من هناك إلى روحها وذكراها، وأن أتحدث لعلها تلتقط كلمة من كلماتي وأذكر أني طلبت معجزة صغيرة من ربي أن يعيد لي أمي للحظات لأقول لها إني تحررت وحلمها تحقق حتى أتمكن من تقبيل قدمها، كان موقفاً صعباً جداً ولا أذكر تفاصيل ذاك الموقف من شدة التأثر والانفعال.

أول صباح بعد تحريرك كان هنالك نقص في المنزل لم تجد والدتك وبسماتها تنتظرك عند استيقاظك؟
أمي توفيت ليلة 21-22 آذار الساعة الواحدة والنصف ليلاً تقريباً في عيد الأم، ولا أدري هذه المصادفة كيف سأعيشها في المستقبل وهذا أضاف لي جرحاً جديداً ولا أعرف كيف سأحتفل بعيد الأم بقية عمري، لا أعرف إن بقي هناك من فرح ومن احتفال في هذا اليوم، «أمي توفيت في عيد الأم، كيف يكون هناك عيد وأمي توفيت فيه»، كيف نحتفل بعيد كل الأمهات، وإذا كانت في هذا اليوم أمي رحلت.

خلال اعتقالك ارتقى لك رفيقان من الأسرى شهيدان، وهما الأسير الشهيد هايل أبو زيد والأسير الشهيد سيطان الولي.. لأم هايل وأم سيطان ماذا تقول اليوم؟ وكيف كانت لحظات وداعهما داخل الأسر؟
أثناء رحلة السجن الطويلة ودعت الشهيد البطل هايل أبو زيد والشهيد البطل سيطان الولي غادرانا من السجن إلى الحرية أحياء، مع أن الحرية يجب أن تكون أمراً يفرحنا لكن حرية الاحتلال هي الموت والشهادة، أطلق سراحهما بسبب المرض، وبعد التأكد من أن الحالة الصحية لهايل وسيطان ميئوس منها، أطلق المحتل سراحهما ليواجها الاستشهاد خارج السجن، ودعناهما أحياء حتى نتلقى خبرهما شهيدين عن بعد محاطين بأسوار سجن الاحتلال.
اليوم وفي عيد الأم أحني هامتي أمام والدة الشهيد هايل وأمام والدة الشهيد سيطان، ومن أول الزيارات التي قمت بها عند تحرري في هذه المرة وفي المرة السابقة هي زيارة بيت الشهيد هايل وبيت الشهيد سيطان، حتى ألتقي بأم هايل وأم سيطان، أحني هامتي كي أقبل أياديهما وأقبل جبينهما، وأحني هامتي أمام أمهات الشهداء جميعاً في سورية وكل شهداء القضايا الوطنية في العالم.

في ذكرى استشهاد غالية فرحات ومن جانب ضريحها أكدت قيم الجولان في التضحية، وأنتم من أطلقتم يوم استشهادها اسم منظمة اعتقالية على اسمها في معتقل عسقلان جنوب فلسطين، كيف ترى استشهادها في مسيرة الجولان النضالية؟
قبل عدة أيام وفي التحديد في الثامن من آذار قمنا بإحياء ذكرى الشهيدة البطلة الأم الشهيدة غالية فرحات، التي استشهدت في الثامن من آذار عام 1987 في قرية بقعاتا، وأنا أحني هامتي أمام هذه البطلة التي استشهدت برصاص الاحتلال، فإن يسقط شهيد في الجولان فهذه قيمة عظيمة جداً، وأن يكون الشهيد في الثامن من آذار، فهذه قيمة أعظم، وأن تكون الشهيدة امرأة فهذا يزيد من عظمة الاستشهاد، وأن تكون أمّاً فهنا اكتملت كل منظومة القيم الوطنية والنضالية، وهنا اكتملت كل دائرة وكل منظومة القيم الوطنية والنضالية، وهنا الشهادة بأرق وأسطع قيمها، هي الأم والمناضلة والشهيدة، تصادف ذكرى يوم المرأة في ذكرى ثورة الثامن من آذار، هي جمعت واختزلت كل هذه القيم فكل التحية لروح الشهيدة غالية فرحات التي باتت تشكل رمزاً ومحطة من محطات المسيرة النضالية لسكان الجولان، وهي ترمز لكل هذه المسيرة، عندما استشهدت الشهيدة غالية فرحات كنا في سجن نفحة الصحراوي، نحن مجموعة من أسرى الجولان المحتل وبمجرد تلقينا هذا النبأ أطلقنا على منظمة أسرى الجولان في سجن نفحة اسم منظمة الشهيدة غالية فرحات، لأنه شرف كبير أن نحمل هذا الاسم، وأن نحمل هذا الاسم داخل الأسر بكل ما يرمز إليه هذا الاسم الكبير وهذه الشهيدة البطلة، فكل التحية لروحها الخالدة التي ستبقى خالدة في ضمائرنا وضمائر كل الأحرار وكل الشرفاء وكل الأوفياء، وعندما يتحقق تحرير الجولان سنذهب إلى حيث قبر الشهيدة ونحني هاماتنا هناك ونقول لها، لقد تحرر الجولان وسنحتفل معها وستكون حاضرة معنا بعقولنا وضمائرنا، وستكون فرحة مع فرحتنا بتحرر الجولان، وسنبقى أوفياء لها وللقضية التي استشهدت لأجلها القضية، قضية تحرير الجولان، أنبل قضية في هذا الكون.

في ظل الحرب الشرسة على سورية قدم الوطن آلاف الشهداء لأمهات الشهداء وزوجاتهم وأبنائهم داخل الوطن.
في عيد الأم أوجه التحية لكل الأمهات في سورية وتحية خاصة لأمهات الشهداء أنحني أمامهن وأقبل أياديهن وجباههن العالية، هذه هي الأم السورية التي تودع ابنها تحت الاحتلال الإسرائيلي بالزغاريد هذه الأم التي تستقبل ابنها الشهيد بالزغاريد، هذه الأم السورية التي تزور ابنها الأسير برأس مرفوع وتمده بكل المعنويات، لكل أمهات سورية أوجه التحية وأنحني أمامهن وأقبل أيادي أمهات الشهداء جميعاً وأقول: «لكن المجد يركع».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن