ثقافة وفن

«أقاويل لغوية معاصرة» في خدمة اللغة العربية بعيداً عن الأهواء والآراء ووساوس النفس البشرية

| جُمان بركات

تناول د. عبد الناصر إسماعيل عساف في الكتيب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان «أقاويل لغوية معاصرة» ما قاله بعض المعاصرين في بعض الألفاظ والأساليب والتراكيب التي يستعملها الناس من «أقاويل» لم تأخذ بِعُرا الحقيقة، إذ لم تستند إلى ما تطمئن النفس إليه من دليل قاطع أو بينة صحيحة، ولم تُــبن على منهج علمي مسدد، فكان فيها ما كان من تغليط الصحيح الفصيح، أو الحكم على بعض ذلك بما قد يفضي إلى التخطئة، لبيان عوار تلك الأقاويل بالدليل والبينة، ووضع تلك الألفاظ والأساليب والتراكيب التي غلّطها المعاصرون أو وسموها بما قد يفضي إلى التخطئة في موضعها المناسب، وذلك بعض ما ينبغي لترميم بعض أجزاء الحقيقة، ومؤازرة المنهج، وخدمة اللغة العربية واحترام العقل، وبهذه قد تكتمل صورة يحب لها بعض الناس أن تكتمل وتقع من النفس موقع الاستحسان.
كان مما خدم المعاصرون به اللغة العربية في زماننا أن نظروا فيما جرى ويجري على ألسنة المعاصرين والمحدثين من أساليب التعبير ووجوه القول، يرصدون ما فيها من انزياح عن النمط المأثور المألوف في الدلالة والبنية والتركيب والأسلوب، وينبهون على ما كان من ذلك مخالفاً لما وقر في أنفسهم أو تردد في كتب اللغة العربية من وجوه الاستعمال وأساليب القول وضوابط وقوانين تحكم الاستعمال اللغوي الصحيح ويصححونه على وجهه.

مقالات ومناهج
وقد كان لهم في ذلك طرائق ومناهج، وكان لهم من ذلك مقالات ودراسات وكتب ومعجمات، وكان وراء ما كان من ذلك – وما يزال – حرص على اللغة العربية، وسعيٌ إلى حفظها مما يشوبها، ورصد ما يطرأ عليها من صور التطور الحادثة، لضبطها من فوضى الانفلات، وردها إلى جادة النظام اللغوي المنضبط.
وتبدو لك صنائع القوم في ذلك أهاجي يثربون فيها الخطأ ويدون عواره، وأماديح يحتفلون فيها بالصواب وينوهون به مرامهم في ذلك المساهمة في تطهير اللغة المستعملة السائدة من وجوه الفساد الشائعة.
وقد كان لذلك فوائد جمة لا تنكر، بيد أن بعض ما صدر عن حركة التصحيح اللغوي –وما يزال- غفل فيه أولئك الحماة الحرصاء على الواقع اللغوي الصحيح بامتداداته التاريخية الواسعة، لم يرعوا الحقيقة اللغوية تامة، فكان منهم بذلك تغليط بعض ما هو صحيح فصيح، أو جائز جوازاً حسناً أو وسمه بأحكام وأوصاف مآلها عند أصحاب «الحساسيات العالية» إلى النبز والتخطئة والنبذ.
ومثل ذلك عند التحقيق يصنف في باب «الأقاويل» لأنها آراء ليس لها سمة العلم الصحيح المؤكد، ولم تؤسس على منهج علمي محكم تطمئن إليه النفس فهي لا تمت إلى الحقيقة بصلة قوية ولا تعبر عنها.
وبعض هذه الأقاويل ليس له إرث تاريخي يعتد به ويستند فيها إليه، بل هي آراء منبتة من بنات أفكار المعاصرين، لم يؤثر عن أحد من العلماء المتقدمين نعلمه شيء فيها يؤيدها وينصرها، وهو ما أردته هنا بوصف «المعاصرة».
ومن ثم كان من الواجب التنبيه على ما كان من ذلك القبيل وتصحيحه، ففي ذلك كما لا يخفى رد الأشياء إلى سِــكّــتها، وترميم بعض أجزاء الحقيقة ترميماً يساعدنا في احترامها، وفي خدمة اللغة العربية خدمة يكون للعلم فيها راية عالية، بعيداً عن الأهواء والآراء ووساوس النفس البشرية.
وهذه بعض تلك «الأقاويل اللغوية المعاصرة» وما بدا فيها بالدليل والبينة، موصولة بما اتصلت به من تراكيب وأساليب رتبت ترتيباً هجائياً بحسب صدورها «أوائلها» ومن ألفاظ رُتبت بحسب اشتقاقها.

البحوث
يحتوي الكتيب على عشرة بحوث تتعرض جميعها لمسائل لغوية وتراكيب درج استعمالها ومنها:
«أحد شعراء العصر» حيث تحفظ د. إبراهيم السامرائي في بعض كلامه على استعمال كلمة «أحد» في قول القائل: «الأخطل أحد أبرز شعراء العصر الأموي» وعقّب عليه بقوله: «لو قال المحرر: الأخطل من أبرز شعراء العصر الأموي، لاحترم ما درج عليه أهل العربية، أن «من» الجارة تؤدي المراد، وأما قول المحرر فهو من الأساليب المترجمة». هكذا قال، وليس للمرء أن يسلم بما قال ويطمئن إليه، لا شك أن استعمال «من» التبعيضية في هذا التركيب للتعبير عن المراد صحيح فصيح، لا ينبغي أن يماري فيه أحد، والشواهد عليه من كتب التراث متظافرة لكن التعبير عن ذلك بكلمة «أحد» ليس فيه عند التأمل والتحقيق ما يزريه، فكيف إذا كان مثله مسموعاً قديماً وشواهده من كتب التراث كثيرة جداً؟
وورد الفعل «تحقّق» في معاجم اللغة العربية لازماً في نحو: تحقّق الأمر إذا صحّ ومتعدياً بنفسه في نحو: تحقّق الأمر، ذكرت المعاجم هذين الوجهين واقتصرت عليهما اقتصاراً كان وراء ما ذهب إليه بعض النقاد اللغويين والباحثين من منع تعديته بحرف الجر «من»، وتخطئة ذلك فيما يرد من استعمال الناس نحو: تحقّق من نجاحه، وديدن أولئك المانعين والمخطّئين في الحظر والتخطئة يمتد إلى أزيد من ثمانين سنة.
و«السبب الرئيسي والقضية الرئيسية» من وجوه التعبير المألوفة في زماننا منذ عقود الوصف بـ«الرئيسي» و«الرئيسية» في نحو «الأمر الرئيسي» و«القضية الرئيسية» وهما وصفان منسوبان إلى «الرئيس» وقد أنكر ذلك كثير من الباحثين والمشتغلين بالتصحيح اللغوي وجعلوا يغلّطون ذلك وينهون عنه.
و«كعادته أو كما اعتاد» حيث من مألوف تعبير الناس في زماننا استعمال شبه الجملة «كعادته» أو «كما اعتاد» في نحو: «دخل المعلم الصف وحيا الطلاب كعادته» أو «كما اعتاد»، وهو على ظاهره استعمال سائغ، تكون فيه شبه الجملة متعلقة بصفة أو بحال محذوفة.
وكان الناس منذ عقود وما يزالون يستعملون «كم» التكثيرية في مقام التعجب والمبالغة في بيان الرأي من شيء استحساناً أو استهجاناً، فيقولون مثلاً: كم هو جميل! وكم أنت بخيل!.
وعد د. محمد جمال صقر قول الناس في زماننا: «مجرد رأي» مما عرفته العربية حديثاً، وآثر أن يعقد بينه وبين اللغة الانكليزية صلة ونسباً على توجيهه على إضافة الصفة إلى الموصوف، فقال: «ولكنني أوثر على تكلف التوجيهات أن أدعي لك أنه لم يكن لهذا التركيب أن يتوسع فيه ويشتهر وينتشر لولا ترجمة قول الإنكليز «just an opinion» بـ«مجرد رأي».
وبين المؤلف التصحيح اللغوي بين «تأسست المدرسة» و«تأسس المعهد» و«انشغل به وعنه» و«شكّك».
وتوصل المؤلف في النهاية إلى مجموعة نتائج: أن التصدي للفتوى اللغوية والاشتغال بالتصحيح صنعة دقيقة، وأن معاجم العربية لم تستوعب كل ما تكلم به العرب القدماء واستعملوه من ألفاظ العربية وتراكيبها، والحكم على بعض ما يجري على ألسنة الناس من ألفاظ وأساليب وتراكيب بـ«المعاصرة»، ووصف «المولّـــد» بالتوليد على إطلاقه وصفاً زمنياً محضاً دالاً على «كائن لغوي» خلق في غير زمن الاحتجاج، واقتصار مظانّ العربية أو بعضها على وجه من وجهين أو أكثر من وجوه الاستعمال على إطلاقه دليل على صحة الوارد فيها وفصاحته وسماعه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن