ثقافة وفن

من أهم جوانب حياته علاقته بأمه … ديفيد هيربرت لورنس وروايته «أبناء وعشاق»

| هبة الله الغلاييني

ولد ديفيد هيربرت لورنس، أو برتي كما كان يدعى، في محيط الأسرة سنة 1885 في قرية إيستودد بمقاطعة نوتنجهام شاير بالمنطقة الوسطى من إنكلترا، لأسرة عمالية متوسطة الحال. كان أبوه من عمال المناجم، أما أمه فكانت تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الدنيا، وكانت على قدر من الثقافة بخلاف الأب. عملت في التدريس فترة من الزمن قبل الزواج، ولم تعجبها حياة المناجم التي انتقلت إليها بعد زواجها، لذا عملت جاهدة طوال حياتها على حماية أبنائها من مصير والدهم، فدفعت بهم إلى التعليم دفعاً، متحملة في سبيل ذلك الكثير من التضحيات.
كان لحياة ديفيد الأولى أكبر الأثر في شخصيته، ومن ثم في كتابته، لا من الناحية النفسية فحسب، بل من الناحية الفكرية أيضاً.

ولعل حياته الشخصية أصبحت بعد الكتابات العديدة التي تركها لنا أصدقاؤه ومن عرفوه في حياته موضوعاً لكثير من الجدل والنقاش من ناحية، ولكثير من عمليات النبش والبحث والتقصي من ناحية ثانية. فمن المعروف أن الطفل شديد التأثر بالجو العاطفي الذي يعيش فيه في سنواته الأولى، وكان الجو الذي نشأ فيه ديفيد لورنس مشحوناً بعوامل الخلاف والصراع والكره. فقد كان أبواه على طرفي نقيض، ولذا فشلت حياتهما الزوجية، وتحمل الأبناء تبعة هذا الفشل، وقد صور لنا لورانس رواية «أبناء وعشاق» هذه الفترة من حياة أبويه تصويراً رائعاً، فازدياد شقة الخلاف بين هذين الزوجين دفع بالزوج أكثر فأكثر خارج المنزل، فيطيل البقاء في الحانات ويغرق في الشراب ويعود إلى المنزل متعباً ثائر الأعصاب يتلمس الأسباب للعراك والشجار. أما الزوجة فلا تني تظهر احتقارها لزوجها وتقريعها له والتنديد ببقائه خارج المنزل وإنفاق ما تحتاج إليه الأسرة من نقود قليلة يكسبها على ملذاته.
شيئاً فشيئاً أصبح مقت الزوجة لزوجها يداني في عنفه حب الأم لأبنائها، وأصبح الأبناء ميداناً للصراع في الحرب المستعرة بين الأبوين، وأصبح تعلقهم بأمهم ونفورهم من والدهم يهددان حياتهم النفسية بالخطر. وفي حالة ديفيد لورنس صار تعلقه بأمه سبباً لا إرادياً في خضوعه لرغباتها، وفي تشكيل علاقته بالمرأة وخصوصاً في فترة شبابه. هنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع جانب آخر من جوانب حياة لورنس طال الجدل بشأنه، وهو علاقته بـ«جيسي تشمبرز» التي دامت حوالي أربع عشرة سنة وانتهت بالفشل والخيبة. وقد صور لورنس هذه العلاقة من وجهة نظره الخاصة في النصف الثاني من رواية «أبناء وعشاق».
وقد بدأت العلاقة بينه وبين جيسي عندما قام بتعليمها اللغة الفرنسية والرياضة وقراءة كتب الأدب والشعر معها وتدريجياً أخذت الصداقة بينهما تتحول إلى حب قائم على إعجاب متبادل، وخصوصاً من جانب الفتاة التي تقول إنها أحست بعبقرية لورنس واختلافه عن غيره من الشبان. أما لورنس فكان يجد فيها الأذن المصغية التي يصب فيها أفكاره عن الأدب والحياة، والفتاة الذكية المرهفة الحس التي يناقش معها مشاكله الأدبية والشخصية، ويعرض عليها كتاباته، ويستنير برأيها في كثير من الأمور، إلا أن هذا الحب يتعثر ويفشل في النهاية، وقد اختلفت الآراء في تفسير هذا الفشل، وإن كان من المرجح أن ذلك يرجع في الدرجة الأولى إلى تعلق لورنس بأمه ورغبة الأم في الاحتفاظ بولدها وعدم التنازل عنه لامرأة أخرى وخصوصاً جيسي التي كانت الأم ترى أنها تريد امتلاك قلب ابنها وعقله ولن تترك لها شيئاً منه.
في رواية «أبناء وعشاق» للورنس، التي يصبح فيها هو «بول موريل» وتصبح جيسي «مريم»، نرى الابن ممزقاً بين حبه لهذه الفتاة ورفض أمه لعلاقته بها وكرهها لها ومحاولة نزع ابنها من بين يديها، ويحاول الابن في النهاية تفسير خضوعه لتأثير الأم فيتهم الفتاة بالبرود العاطفي، مدعياً أنها لا تثير فيه الرغبة التي يجب أن تثيرها فيه الفتاة التي يتزوجها، ويؤكد على روحانيتها، وشغفها بامتلاك الأشياء، وخلوها من الناحية الحسية.
جيسي من جهتها تزعم في تصويرها لما حدث أن لورنس كان يبادلها الحب وأنه كان يعلم أنها تكنّ له حباً عميقاً تأمل أن ينتهي بالطريق الطبيعي الوحيد وهو الزواج، ولكن خضوعه لأمه التي كانت تريد الاحتفاظ به كان خضوعاً كاملاً حدا به إلى الخداع وتشويه الحقيقة حتى فيما بينه وبين نفسه. وتقول إنه في اللحظات التي كان يتحرر فيها من تأثير الأم كان يظهر لها حباً ورقة بالغين، ولكنه سرعان ما كان يعود مع نساء أخريات لا يكنّ لهن أي حب حقيقي. ولذا كانت مثل هذه العلاقات تنتهي بالفشل. وتشير جيسي إلى ما تسميه بالانفصال بين جانبي شخصية لورنس: الجانب الصادق الذي أحبها به، والجانب الحسي الذي سعى وراء الجنس وأضفى عليه كل تلك الأهمية الزائفة. ولعل الحقيقة كانت مزيجاً من كل هذه العوامل التي لعبت دورها في التفريق بين هذين الشابين.
ومهما يكن من أمر فقد فشلت جيسي في استعادة قلب لورنس بعد وفاة أمه، وتزوجت بعد أن تغلبت على شعورها بالخيبة والإهانة من رجل آخر. أما لورنس فقد كانت له علاقات مختلفة مع عدد من النساء، وأخيراً تزوج من «فريدا» وهي سيدة ألمانية كانت زوجة لأحد أساتذته وأصبحت أهم امرأة في حياته. وبدا أن الوسيلة الوحيدة التي تغلب بها على مرارة تلك الفترة من حياته كانت في كتابته لرواية «أبناء وعشاق» التي كانت بمنزلة علاج نفسي واجه به لورنس الماضي بآلامه وانتصر عليه.
نجحت فريدا فيما فشلت فيه «جيسي» وهو انتزاع لورنس من الخضوع لذكرى أمه. ومن الغريب أن لورنس كان يعلم مدى سيطرة أمه على عواطفه، فقد كتب مرة يقول إنه لو كانت أمه على قيد الحياة لما تركته يحب فريدا. وكتبت فريدا أن لورنس تغلب على ذلك الحب، ولكنه كان حباً عنيفاً عارماً أضر بالصبي الذي لم تكن لديه القوة الكافية لتحمله.
قضى لورنس وفريدا فترة من الزمن «1912-١٩١٤» متنقلين بين ألمانيا وإيطاليا، أتم فيها لورنس «أبناء وعشاق» سنة 1913، وبدأ العمل الكبير الذي أطلق عليه أولاً عنوان «الأختان» ثم جعل منه فيما بعد روايتين منفصلتين هما «قوس قزح» سنة 1915 و«نساء عاشقات» سنة 1916، وتعدان باعتراف النقاد جميعاً خيرة أعماله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن