أحاول كل عام ألا أفوّت فرصة الكتابة في عيد الأم. أجد في هذا تكفيراً عن لحظات الغضب التي واجهت فيها وجه أمي.
أيام التجاهل لغصات قلبها، العصيان المتكرر للأوامر والخطط العائلية، عن حق وعن غير حق.
أبحث في هذا اليوم، العيد الوحيد الذي أحب الاحتفاء به، عن كلمات تذكر كل شقي في هذه الأرض، أن ما لا يعوّض يكمن في قلب الأم، وفي وجهها وكلماتها، والطعام الذي يخرج من بين يديها، وحضورها الخفيف في المكان، الطاغي في الزمان.
الخبز الساخن من بين يديها كل صباح، الطبخة التي تخبئ سراً عظيماً ظهراً، العناق الذي لا مثيل له ليلاً، والرائحة التي تخرج من بين أصابعها، وأنفاسها، وحفيف ثيابها، فتملأ زوايا البيت، تدخل صور الجدران التذكارية، متسللة إلى التفاصيل، رائحة هي تكوينٌ مدهشٌ، من عطر، ورائحة جسد، وأنفاس وحُب.
الكتابة في هذا الموعد، موعد عيد الأم، كالغفران.
كتذكير بالنعمة الكبيرة التي ما زلنا نهنئ بها غير عابئين بمرور الزمن وكأنما نملكه، بينما هو يمر حقيقةً غير مكترثٍ بنا، يحدد بوصلته وساعات قدره في غفلةٍ عنا.
وحين يكون القدر كريماً، حكيماً، يضربنا من دون أن يقتلنا، يوجعنا من دون أن يُعطبنا، منبهاً إيانا، نحن الأولاد المبعثرين في أصقاع الأرض، باحثين عن مجدٍ صغيرٍ، وأجرٍ أصغر، أن منارتنا الحنون ما زالت هناك، تحتاج رعايةً، وعناقاً، وكلاماً مطمئناً، بأن ما صنعته خلال حياتها، كل ما صنعته فعلياً، أنها أنجبت أولاداً صالحين.
أتذكر دومًا حين يأتي هذا اليوم، ما كتبه زميلٌ عن اليُتمِ، في ذكرى رحيل والدته، مستدلاً بمعنى من معانيه باللغة العربية، حيث يشير أحد المعاجم إلى «اليتائم» باعتبارهم «حبّات الرمل المنقطعة عن بعضها بعضاً»، كأنما يقول إنها وحيدةٌ خارج نسيجها، ذرةٌ في مهب الريح، كما يشعر كل من فقد صِلته بـ«نبع حنانه».
لذا حين يضرب القدر، ويُوجِع، يُحدِث أثرَه المطلوب، فيعيد تشكيل الأولويات، يجمع حبّات الرمل في حبلٍ واحدٍ، هو الحبل الذي كان منذ زمن بعيد، كل شيء، كل الحياة. الأم.
لكن من الصعب جداً الكتابة عن الأم الصغرى، ونحن الآن نكافح في عزلتنا البيتية، من دون تذكُّر الأم الكبرى.
هنا الآن، أيضاً يضرب القدر ليذكرنا بقلة حيلتنا، وهشاشة تكويننا أمام اللامرئي، الغامض، المتخفي في ذرات الهواء.
يدفعنا أخيراً، لتأمل ما لدينا من خيرٍ وبهجةٍ لا نقدرها فعلياً.
البحر الذي لا نستطيع نزوله، الشجر الذي لا نستطيع تسلقه، البني آدم الذي لا نستطيع معانقته، من دون أن نغامر ربما بحياتنا، أو حياته.
أما زقزقة العصافير التي باتت تُسمع في المدن الكبرى. الدلافين التي تخرج رؤوسها من المياه الضحلة في «البندقية»، الشمس التي بات من الممكن رؤيتها في سماء الصين.
فهذه همسات تبوح بها الأم الكبرى، لتذكرنا بأنانيتنا المفرطة في استغلالها وإهمال شكواها، وجشعنا غير المنقطع تجاه مواردها التي تشح يوماً بعد يوم.
هذه الضربة الموجعة لكل البشرية، هي تنبيهٌ بأن قدرة «الأم» على التسامح معنا، لا يعني أننا لن نعود لأذيتها وأذية أنفسنا.
أيام عصيبةٌ هذه التي تأتي بينما نحن نمر بعيد الأم. ولكنها إنذار مهم، بمدى هشاشتنا دونها. قبلة لأمهات العالم الصغرى وللأم الكبرى.