ثقافة وفن

كيفية بناء أكبر تكتل في «النظام السياسي للاتحاد الأوروبي»

| سارة سلامة

ستون عاماً من البناء الأوروبي اصطنعت نظاماً سياسياً، نظاماً أدرج بين إستراتيجيتي التكامل والتعاون، وتميز، في آن معاً، بالمنهج الجماعي وبتعاون الدول. ونجم عنه قانون أوروبي وسياسات مشتركة، وانبثق فضاء عام جديد، من الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ إلى معاهدة لشبونة، مروراً بمعاهدات روما، القانون الموحد، ماستريخت، أمستردام، ونيس، ولم يؤد النظام النافذ حالياً إلى ولادة «الولايات المتحدة الأوروبية» التي توقعها «الآباء المؤسسون».
بقي الاتحاد الأوروبي، لمدة طويلة «موضوعاً سياسياً غير معرف الهوية» كما قال جاك ديلور. ونظراً لعدم وجود دستور للاتحاد الأوروبي، زودته معاهدة لشبونة، التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من كانون الأول 2009، بنظام أساسي مولّد لاتحاد دول– أمم.
يوضح كتاب «النظام السياسي للاتحاد الأوروبي أن التطورات التي عرفها النظام السياسي في القارة العجوز لم تؤد إلى ولادة «الولايات المتحدة الأوروبية» التي توقعها «الآباء المؤسسون» وبقي الاتحاد الأوروبي لمدة طويلة تكتلاً سياسياً غير معروف الهوية.

تحت تصرف الأجيال
وجاء الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب وترجمه الدكتور محمد صاصيلا، في 270 صفحة من القطع المتوسط و13 فصلاً تناولت الإستراتيجيات الأوروبية الحاضرة وطريقة إعداد المعاهدات الأوروبية وقرارات المؤتمرين الأول والثاني وقيم الاتحاد وأهدافه واختصاصاته وميثاق الحقوق الأساسية ومؤسساته السياسية.
ويركز الكتاب على إدارة الاتحاد الأوروبي والأسس التي انطلق منها لضمان استقلال دوله في سياساتها مع الاندماج ضمن إستراتيجيات الاتحاد العامة والسياسات المشتركة ويشرح سبل تمويل الاتحاد وصولاً إلى تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية وإعلان منطقة اليورو وكيفية بناء السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية المشتركة وبنية القانون الأوروبي وآلية عمل محكمة العدل والطبيعتين السياسية والقانونية للاتحاد وما يواجهه من تحديات.
ويطمح هذا الكتاب إذاً، علاوة على وظيفته الأكاديمية، إلى وضع الحد الأدنى من المعطيات تحت تصرف هذه الأجيال الجديدة، بما يسمح لها بفهم المسعى الأصلي للآباء المؤسسين الذين كانوا يريدون، منذ البداية، التشجيع على إقامة مؤسسة قادرة على أن تصبح، في النهاية، أكثر من كونها سوقاً مشتركة، فاعلاً فريداً من نوعه على المسرح الدولي، وبدا أنها مهمة من الصعب القيام بها، كما اعترف، بذلك جان مونيه، الذي أقرّ بأنه كان «للجماعة موضوع محدود»، وأضاف قائلاً: «كنت أعلم أن التقدم قد يتوقف عند الحدود التي تبدأ فيها السلطة السياسية، هنا ينبغي الابتكار من جديد».

البناء الأوروبي
ثمة مصدران اليوم للبناء الأوروبي الذي بدئ به غداة الحرب العالمية الثانية بغية تعزيز السلام من خلال عدم تكرار الأخطاء المرتكبة في أعقاب الحرب العالمية الأولى: مؤتمر لاهاي، المنعقد عام 1948، بمبادرة من الحركات السياسية الداعية إلى الاتحاد والوحدة، برئاسة ونستون تشرشل، أنشأ هذا المؤتمر مجلس أوروبا، الذي ضم على أساس حكومي سبعاً وأربعين دولة عضواً، وأعدّ عام 1950 الإعلان الأوروبي لحقوق الإنسان وللحريات الأساسية، الذي أقرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تتخذ من ستراسبورغ مقراً لها.
تصريح شومان في 9 أيار عام 1950، الذي أوحى به حان مونيه وفريقه في مفوضية التخطيط، ونص على أن أوروبا لن تبنى دفعة واحدة، ولن تحظى ببناء يضم الجميع، بل ستبنى عبر إنجازات ملموسة تخلق تضامناً واقعياً، كما أوحى بإنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ، لكنه أخفق في تأسيس جماعة الدفاع الأوروبية، على حين بقي مجلس أوروبا منظمة دولية من النمط الكلاسيكي، ضمت الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ، والجماعتان اللتان نشأتا بعدها «الجماعة الاقتصادية الأوروبية، والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية» مؤسسات فوق قومية وبين حكومية، وابتكرت، تحت مسمى «منهج جماعي» عملية تكامل أصبحت في إطار الاتحاد الأوروبي أسلوب التشريع العادي.

سلسلة معاهدات
تتالت في غضون نصف قرن، سلسلة معاهدات لتوسيع ميدان عمل الجماعة، ثم الاتحاد الأوروبي، ولزيادة عدد الدول الأعضاء، جمعت هذه المعاهدات تدريجياً، بين المسار الجماعي الناظم للسوق المشتركة والتعاون بين الحكومات المطبق على الاتحاد السياسي، وأدت إلى قيام اتحاد نقدي بين عدد محدود من الدول الأعضاء، تولت معاهدة لشبونة، بصفتها آخر هذه المعاهدات، عمل التدوين الذي شرع به المؤتمر المنعقد عام 2002، لمناقشة موضوع مستقبل أوروبا، وكان يطمح إلى تزويد الاتحاد الأوروبي بدستور، لكن الاستفتاءين اللذين نظما عام 2005 في فرنسا وهولندا، أوقفا هذه المبادرة، الأمر الذي أدى إلى عدم تضمين المعاهدة الرموز- العلم والنشيد والشعار التي كان ينبغي أن تتزين بها.
ويقدم الاتحاد الأوروبي نفسه اليوم بعد أن بقي لمدة طويلة بلا تعريف، عبر السمات التي رسمها جاك دولور بصفته «اتحاد دول- أمم» وأصبح منذ معاهدة ماستريخت ملائماً لتمايز يقود إلى التفريق بين وضع الدول التسع عشرة، الأعضاء في منطقة اليورو، والوضع المطبق على الثماني والعشرين دولة المشكلة للاتحاد، الأمر الذي يجعل هيكليته معقدة، على الرغم من الصهر الذي أجرته معاهدة لشبونة بين الجماعة والاتحاد، ومن اعترافها لهذا الاتحاد بالشخصية القانونية الدولية، تتألف هذه المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني 2009، من معاهدتين محكمتين: الأولى مؤلفة من 55 مادة، هي معاهدة الاتحاد الأوروبي، والأخرى من 358 مادة، هي المعاهدة الخاصة بعمل الاتحاد الأوروبي، هذا من دون حساب الملاحق.
ويبحث الكتاب التفصيلات تباعاً في تاريخ الاتحاد، مؤسساته، وطرائق اتخاذ القرار فيه، وبعده السياسي، ونظراً للإطار المحدود لهذا المؤلف، الهادف إلى تفضيل وضوح الحديث ودقته على الغوص، تاريخياً، في تحليل الآليات التي تراكمت على مدى نصف قرن، ثم أتت إدارة الأزمة الاقتصادية والمالية، عام 2008، لتعقدها أكثر فأكثر.

عن قرب
يذكر أن المؤلف جان لوي كرمون أستاذ فخري لعلم السياسة ودرس في معهدي الدراسات السياسية في غرونوبل وباريس وفي كلية أوروبا في مدينة بروج «بلجيكا» وتولى رئاسة فريق التأمل في إصلاحات المؤسسات الأوروبية في مفوضية الخطة.
أما الدكتور محمد صاصيلا فهو حاصل على درجة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة غرونوبل فرنسا عام 1971 عمل في وزارة التعليم العالي والتدريس الجامعي والسلك الدبلوماسي له خمسة مؤلفات في مجال القانون الدستوري والنظم السياسية و37 عملاً مترجماً من اللغة الفرنسية في مجال العلوم السياسية والاجتماعية والقانون العام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن