ثقافة وفن

سكتة قلبيّة… ومسألة الموت الطبيعي في المعركة بعيداً عن الشهادة … مونودراما تقارب الساعة واللعب على عدّة مستويات

عامر فؤاد عامر :

يبقى لخشبة المسرح دورها في نقل الحدث بصورة أكثر إيجازاً حيناً، وأكثر تكثيفاً حيناً آخر، وهذه هي إحدى وظائفها التي تؤثر مع مجموعة عناصر أخرى في المتلقي، فتتحد مع وجدانه لتصنع تكويناً، وتعزز مشاعر تبعاً للمعاناة والظرف الذي يحيا به هذا المتلقي. وعلى مدى خمس سنوات من المحاولات المسرحيّة على خشبة المسرح السوري لاحظنا كمّاً من المشاهد التي لامست واقعنا، وتحدّثت عمّا مررنا به من أحداث أجبرتنا عليها الأزمة في سورية، والحرب المريرة التي خضناها بإرادة غيرنا، فالقضية المصيريّة التي تستهدف بناء الإنسان ونسف الهويّة باتت صورة واضحة يتمّ استيعابها بهدوء والاعتراف بها من قبل الجميع، وبات للمحاولات المسرحيّة ما يمكنها طرحه بالمزيد من الأفكار، والحوادث التي تتمحور حول هذه القضيّة، واليوم تقدّم مؤسسة «مواطنون فنانون» بالتعاون مع مديريّة المسارح والموسيقا مونودراما «سكتة قلبيّة» على مسرح خشبة القباني، والتي تعدّ إحدى المحاولات المسرحيّة التي أشرنا إليها. تحمل لون الأزمة، ومرارة ما حصل، وتستعرض بعض همومٍ رافقت إنسان الأزمة، لتضيف لوناً برؤية إخراجيّة من قبل مخرج العرض «منصور نصر».

جهد مشكور

المونودراما من أصعب الفنون وأكثرها ضغطاً على الممثل الذي يؤديها، فهي مرهقة في استنزاف طاقة الممثل ولاسيما إن اعتمدت على كمّ كبير من الحركات في زمن طويل، وفي «سكتة قلبيّة» يلعب الممثل «جهاد عبيد» دوره الزاخم بالحركة، وإجبار المتلقي على فعلين هما التخيّل والعودة بالذاكرة إلى الماضي، ويعدّ الجهد الذي بذله كافياً للقول إنه استطاع الانسجام مع الهدف من العرض والمقدرة على إيصال الغاية منه للمتلقي بدليل انفعال الجمهور معه في أكثر من مشهد، فجهده مشكور، ولاسيما أنّ النصّ من تأليفه في الأساس، على الرغم من الغموض البادي في بعض الانتقالات ما بين حالة الراوي وحالة الإنسان الذي يعاني من تخبطات الحياة وهو «أبو اسماعيل» الذي يناقش مسألته ويطرحها بدقة أمام الجمهور، ويذكرهم بها كثيراً بين كلّ مشهد وآخر، بمعنى أن الانتقال بين المشاهد يجب أن يحمل حالة من الوضوح أكثر في قدرات الممثل وصوته، فقد كانت الموسيقا والإضاءة عاملين أكثر تفوقاً في هذه المسألة، فساعدا الممثل على الفصل أكثر من مقدرته في الخروج بسرعة من كاركتر أبو إسماعيل إلى تقمص شخصيّة الراوي!.

وحدة القضيّة
القضية الفلسطينيّة هي القضيّة المحوريّة التي تربينا على تبنيها بمحبّة ومصداقيّة، واليوم اتسعت القضيّة لتشمل مقاومة داخلية في كلّ شخص وطني ويرى بنبل فظاعة ما حصل في سورية، وفي العرض تمّ توحيد المسألتين وهذه نظرة جميلة لطالما رأيناها من ابن هذا الوطن في رؤيته للعروبة وعدم نسيان القضيّة الفلسطينية، فكان الهمّ مشترك بينها وبين الوجع السوري الذي ألم بنا جميعاً.

لهجات
موضوع اللهجة التي لاحظناها في العرض منذ بدايته حتى الختام كان دليلاً واضحاً على الفكرة التي أسلفت بها فجاءت اللهجة التي تحدث بها الممثل بين فلسطينيّة، وسوريّة بيضاء، والفصحى، ومن دون نفور كان توزيع اللهجات الثلاث على المشاهد ناجحاً ولم يذهب بنا إلى غربة ما بسبب التنويع في اللهجة بل كان ناجحاً إلى حدٍّ كبير.

لماذا سكتة؟
ركز العرض كثيراً على فكرة الشهيد واعتراف الدولة به وتقديره والسمو بمعناه، وبين الموت الطبيعي أثناء المعركة، وهذا هو محور العرض الذي أخذ العنوان شيئاً مباشراً منه أيضاً، فتجلى في معاناة «أبو اسماعيل» وطرحه لهذه المقارنة بعد انتقاله إلى الحياة الآخرة، فكان يراقب ما حصل معه من موت مفاجئ بسبب السكتة القلبية أثناء مجريات المعركة، وعدم الاعتراف به كشهيد بالتالي معاناة زوجه وأهله من هذه القصة وعيشهم في دوامة الاعتراف به كشهيد سعياً للحصول على ميزات الشهادة، والتطرق لكثير من التفاصيل التي أصابت عدداً من الأسر لدينا في سورية أثناء هذه الحرب.

بين الراوي و«أبو إسماعيل»
معظم الحكاية تدور بين مشهد متخيل وعودة لصندوق الذكريات في حياة «أبو اسماعيل» منذ كان طفلاً إلى أن كبر ورحل عن بيته، ثمّ تزوج ورحل من جديد نحو الحرب فأصابته السكتة القلبيّة، على حين يرافق الراوي هذه المفاصل واحدة تلو الأخرى، ويشرح ما حصل من خلال ملاحظة، أو سؤال يُطرح على الجمهور، أو تذمر ما يطلقه بعفويّة، أو الغوص في نفسيّة «أبو اسماعيل»، وقد ساعدته مجموعة من الأدوات البسيطة فكانت عروسه «جوريّة» تأخذ شكلاً بين خريطة فلسطين وامرأة، وكان الميزان الأعوج معيناً له في حالة التذمر والشكوى والتعب، وأيضاً البارودة التي لا بدّ من وجودها وهو يتحدّث عن الحرب والقتال، والتلفون، وغيرها من المنحوتات والتشكيلات التي قدّمتها الفنانة «ريم الماغوط». ولا بدّ من ذكر عنصر آخر اعتمده الممثل في إنجاح الشخصيّة ولفت انتباه المتلقي ألا وهو رمي النكتة لإثارة الضحكة في قمة المعاناة التي يعيشها «أبو إسماعيل»، وقد كان لذلك إضافة جيدة في بقاء المتلقي ضمن دائرة المراقبة، والاستمتاع في سيرة حياة ومعاناة الشخصيّة، فكانت شيئاً بسيطاً من كوميديا سوداء.

براعة
العنصر الأكثر تفوقاً في عناصر مونودراما «سكتة قلبيّة» كان في الموسيقا وتنفيذ الصوت، وهذا العنصر أضاف حالة مهمّة في الأجواء، ومنح المتلقي فسحة من الراحة فألوان المسرحيّة والإضاءة الخافتة تناسبت في الحديث عن الحرب والموت وروح الشهيد ومعاناة أسرته وجاءت جميعها متفقة على صبغة حزن شديدة، على حين حملتنا الموسيقا إلى نوع من التأمل في المشاهد والابتعاد نوعاً ما عن الحالة الحزينة وهذا ما ميّز نجاحها أكثر عن باقي العناصر والتنفيذ هنا جاء لـ«يامن خميس» واختياره السليم، وبمناسبة الحديث عن الموسيقا كان أيضاً لصوت «ريم رافع» حضور خاصّ من خلال مقطعين غنائيين ذكرانا بصوت الفنانة «أميمة الخليل»، وقد تمّ توظيف ذلك بما يخدم العرض ويناسبه، وهذه علامة جيدة أيضاً للعرض.

ختاماً
يبقى أن نذكر أن مونودراما «سكتة قلبيّة» من تأليف وتمثيل «جهاد عبيد» ومن إخراج «منصور نصر»، والفريق الفني والتقني: «مضر رمضان» مخرج مساعد، «بسام حميدي» تصميم الإضاءة، و«يامن خميس» في انتقاء الموسيقا وتنفيذ الصوت، و«ريم الماغوط» نحت قطع الديكور، و«عماد عبيد» تصميم البوستر والبرشورات، و«ريم رافع» أداء أغنية النهاية، و«عماد حنوش» تنفيذ الإضاءة، و«سمير أبو عساف» مدير المنصة، و«علي النوري» إكسسوارات وخدمات عامة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن