قضايا وآراء

رياح القوقاز ثقيلة الوطأة

| عبد المنعم علي عيسى

سيكون من الصعب، أقله راهناً، تحديد الأثقال التي رمى بها الاتفاق الأرميني الأذربيجاني برعاية روسية، والجاري توقيعه يوم الإثنين 9 من شهر تشرين الثاني الجاري، نقول سيكون من الصعب تحديد الأثقال التي رمى، وسيرمي، بها على الأزمة السورية، خصوصاً منها في شمالها الغربي وكذا في مناطق شرق الفرات التي تمارس فيها ميليشيا «قسد» دور «الرقعة الحمراء» التي ترفع عادة لإثارة الثور، في الوقت الذي أصبحت فيه تلك الممارسة تشكل، كما يبدو لدى تلك الميليشيا، ملاذاً يرى في التصعيد مبرراً وحيداً للبقاء، ولربما تغوص في عمق الرؤية سلوكية مفادها أن ذلك التصعيد وحده يحمل دلالة توحي باستمرارية الركون على ضفاف المشهد، ثم من حيث النتائج المستحصلة هناك تفكير يلوح من بعيد يبدو أقرب إلى تساؤل يشي به لسان حال قادتها مفاده: ما الذي لدينا ويمكن أن نخسره؟
كانت صيغة ذلك الاتفاق التي جاءت عليها أشبه ما تكون بتثبيت تركي ناجح في حضرة التمدد الروسي، بل وفي حديقته الجانبية التي كان ممنوعاً فيها حتى تقاذف الكرات التي تثير الضجيج تحت طائلة تصنيف الفعل في خانة «إثارة الشغب» التي تقلق راحة الجوار، وهو فعل غالباً ما يدفع بهذا الأخير إلى ردود فعل «تأديبية» تنتهي عادة بـ«شق» الكرة وتفريق المشاغبين.
في مقاربة أسباب النجاح التركي هنا يمكن القول: إن هذا الأخير كان مرده يعود لاقتناص لحظة سياسية نادرة مثّلت عاملاً كان الأهم من بين كل العوامل المؤثرة في الصراع، بما فيها التوازنات العسكرية والسياسية القائمة في جنوب القوقاز، فموسكو ومنذ أن أوصلت الثورة الملونة بـ«نيكول باشينيان» للسلطة في يريفان العام 2018، كانت ترقب ذلك الوصول بقلق بالغ وهو مشروع، فالرجل كان ذا هوى غربي باد بوضوح على أدائه وفي ميوله السياسية، بل والحياتية، وفق ما كان يحرص على إظهاره، وذاك كله من الممكن تلمسه في أدق التفاصيل التي سارت عليها سياساته التي كانت تراكم، بشكل منتظم، تقارباً مع الغرب يتزامن بالضرورة مع تباعد بدا ممنهجاً مع الجار الروسي، الأمر الذي جعل من وجوده على رأس السلطة عقبة يرى «الدب» الروسي فيها مدعاة لاضطراب حاصل عند خاصرته، وهو ما استدعى في السياسة التعاطي معه على مبدأ وضع حالته تلك على اللوائح التي يستحق على من ترد أسماؤهم فيها دفع الضرائب التي يدفعها الأفراد أو المؤسسات عادة، والضريبة المستحقة الدفع على باشينيان جاءت هنا بفعل محاولته القفز فوق عامل الجغرافيا بكل حمولاته والذهاب نحو سياسات أقل ما يقال فيها إنها «استفزازية» لجار ما انفك يعمل على توسيع حدود أمنه القومي في محاولة لاستعادة نهوضه القديم، حتى إذا ما جاءت لحظة 27 أيلول التي اندلع فيها الصراع في إقليم ناغورني قره باغ كان وجوباً على باشينيان الوقوف أمام الصندوق الذي تشير اللوحة أعلاه إلى «التسديد» لا إلى «القبض»، كانت تلك لحظة قرأتها أنقرة جيداً ونجحت في الاستثمار فيها.
في أول رد فعل على اتفاق 9 تشرين الثاني لوقف إطلاق النار في ناغورني قره باغ نقلت وكالة الأناضول كلاماً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان جاء بعد يومين فقط من هذا التاريخ، وما يلفت النظر في حديث هذا الأخير هو ما يحمله بين ثناياه من لكنة «النجاح» المتحصل عليه في قره باغ مع تلمس محاولة لاستنساخها في سورية، أردوغان كان قد عبّر في تصريحاته تلك عن أمله في أن تبدأ مسيرة سلام في سورية على غرار ما حدث في إقليم قره باغ، قبيل أن يختتم حديثه بالتلميح إلى إمكان القيام بخطوات في سورية وليبيا مشابهة لتلك التي حدثت في هذا الإقليم الأخير.
هذه الأرضية السابقة تطرح احتمالين لفهم الانسحابات التركية الجارية في الشمال الغربي من البلاد، في الوقت الذي كانت تشير فيه تقارير إلى عزم أنقرة سحب نقاط تمركزها من حي الراشدين غرب حلب وهو أمر، فيما لو تأكد، فإنه سيكون مؤشراً على تحول في التفكير التركي تجاه منطقة الشمال الغربي من سورية برمتها، فإما أن تكون تلك الانسحابات قد جاءت في سياق تفاهم مع موسكو، ليس بالضرورة أن يخرج إلى العلن ولا أن تظهر مفاعيله سريعاً، وهو يقوم على تقليص أنقرة لوجودها في إدلب ومحيطها لينحصر لاحقاً في شريط حدودي يمكن أن ينقص أو يزيد عن عشرة إلى خمسة عشر كيلو متراً متاخمة للحدود التركية، في مقابل ضوء أخضر تعطيه موسكو لعملية عسكرية تركية تقول تقارير إن أنقرة تتحضّر لها قبل أسابيع، وهي تهدف إلى اقتحام الشريط الحدودي الممتد ما ببن عين عيسى في ريف الرقة الشمالي وبين مدينة الدرباسية في ريف الحسكة الشمالي، لإبعاد فصائل الـPYD عن الحدود التركية، وإما أن تكون تلك الانسحابات في سياق يجري التفاهم عليه ما بين أطراف أستانا، المرهونة هنا بالتشاور مع دمشق، وهو يأتي ترقباً لتحولات محتملة في السياسة الأميركية ما بعد 20 كانون الثاني المقبل، وبمعنى أدق فإنها تأتي في سياق تحصين المواقع الذي يحدث عادة كحالة احترازية تُبنى على قراءات لمسار الرياح القادمة التي ستستولدها هذه اللحظة الأخيرة التي باتت حالة مرجحة بعد إعلان إدارة ترامب في 23 من تشرين الثاني الماضي عن حصول جو بايدن على الدعم الفيدرالي اللازم للبدء بعملية انتقال السلطة، في مؤشر هو أقرب لأن يكون اعترافاً غير مباشر من قبل إدارة ترامب بالهزيمة، وهي تأخذ بعين الاعتبار مجمل المواقف والتصريحات التي أطلقها هذا الأخير تجاه سورية والعراق وتركيا والتي تبدو وكأنها، في تقدير أولي، سوف تزيد من تعقيد تلك الأزمات الحاصلة في المنطقة وخصوصاً منها في الثالوث سابق الذكر.
إذا ما أردنا الخوض في أرجحية أحد الاحتمالين السابقين على الآخر يمكن القول إن الاحتمال الأول يبدو بعيداً أقله راهناً، فموسكو من الصعب عليها اليوم إعطاء ضوء أخضر لعمل عسكري تركي في مناطق شرق الفرات انطلاقاً من التعقيدات الحاصلة في المشهد الأميركي، ومن الراجح في المرحلة المقبلة التي تلي وصول بايدن إلى السلطة أن تزداد العلاقة توتراً ما بين موسكو وواشنطن، وكذا نظيرة هذي الأخيرة مع أنقرة، فغالبية المؤشرات توحي أن تكون مسألة تحجيم الدور الروسي في العديد من المواقع على رأس أولويات إدارة بايدن المقبلة، أما في العلاقة النظيرة مع أنقرة فإن الأمور قد تذهب إلى مطارح أبعد في ظل تعهدات بايدن الانتخابية بـ«اقتلاع أردوغان» في حال وصوله إلى السلطة، وتلك لوحدها كفيلة بأن ترخي بظلالها الثقيلة على العلاقة التركية الأميركية حدث الفعل أم لم يحدث، ولذا فإن الاحتمال الثاني الذي يعني مساعي العديد من القوى نحو تحصين مواقعها بانتظار خروج «الدخان الأبيض» من البيت الأبيض هذه المرة، هو المرجح، وذاك منحى يمكن لحظه أيضاً في السياسات التي ذهبت إليها العديد من القوى الداخلية، بدءاً من إصدار «الائتلاف السوري المعارض» يوم 22 تشرين الثاني المنصرم لقراره بإنشاء «المفوضية العليا للانتخابات»، وهو فعل له الكثير من دلالاته المضافة أيضاً إلى تحصين المواقع سابق الذكر، ثم وصولاً إلى عقد «مجلس سورية الديمقراطية» بالتشارك مع «حزب الإرادة الشعبية» لـ«المؤتمر الوطني لأبناء الجزيرة والفرات» بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ الأخير.
في مطلق الأحوال يمكن القول إن الاتفاق الأرميني الأذربيجاني قد جاء ضاغطاً في تراسيمه على الوضع السوري من حيث النتائج التي خلص إليها، وإن كان من المرجح أن ذلك الفعل سيكون مؤقتاً، فأنقرة التي ترى نفسها وقد خرجت منتصرة في تلك الحرب، سترى نفسها على موعد قريب مع عواصف سوف تتعدد مصادرها المغذاة بمركز الزلزال المتمحور في واشنطن هذه المرة، بل ولربما يمكن التنبؤ بالقول إن عام 2021 سيكون العام الأخير في حكم حزب العدالة والتنمية بطبعته الأردوغانية، هذا ليس قياساً فقط إلى المواجهة المحتملة مع واشنطن، بل قياساً إلى معطيات تركية داخلية عدة، سوف تمضي في تبلورها بشكل سريع على وقع ضغوط الخارج.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن