عادَت صحيفة الوطن، لم يكُن الخبر بالنسبةِ لي مجردَ ابتسامةٍ في صحراءِ هذا الألمُ الذي نعيشهُ ويعيشهُ العالم أجمع، ولا حتى نقطةَ بدءٍ في استعادةِ الروح لتلكَ الحروفِ المتكسِّرة والمنذورة لهذا المنبر الراقي، فهذه العواطف تبدو فقط تجسيداً للشعور الإيجابي تجاهَ هذا المنبر الذي قدَّمني للقرَّاء منذُ عشرِ سنواتٍ تقريباً، حتى باتَت مكانتهُ بالنسبةِ لي كمكانةِ الجمال في ملامحِ الإبداع.
لكن وبواقعيةٍ تامة هناكَ في الاتجاه المعاكِس شعورٌ رفَضَ أن يمرَّ مرورَ الكرامِ في حضرةِ تلكَ اللحظاتِ الإيجابية، شعورٌ مُزعج يمكننا اختصارهُ بسؤالٍ بسيط: ماذا سنكتب؟
هذا السؤال لا يتعلق فقط بفكرةِ الخوف من عدمِ إيصالِ صوت الناس أو تحويلِ معاناتهم إلى كلماتٍ عساها تلقى صدى، ولا يتعلق بفكرة عزوف الناس عن القراءة، فالقارئ يبقى قارئاً، والمتصفِّح يبقى متصفحاً، أما من «لا يعجبهُ العجَب ولا الصيام في رجب» فسيبقى يسخَر من أي كلمةٍ تُكتب لأنه يرى بسخريتهِ تلك قِناعاً يُغطي سلبيتهُ وسوداويتهُ تجاهَ أي شيء، لكن السؤال مرتبط بنوعية الأفكار التي توصِّف نظرتنا لهذا الواقعِ إن كان سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.
كنا نظن أن الكلمات التي نخطها في الشأن العام هي وعلى طريقة نزار قباني قصيدة يكتبها الشاعر العربي وهو لا يدري متى ستنفجر به، هو أراد التحدُّث عن مقاربةِ هذا الشاعر لما يمكننا تسميتهُ المحظورات، وما أكثر المحظورات في هذا الشرقِ البائس! ربما أنه أرادَ ببساطةٍ أن يتحدثَ عن «عين الرقيب» التي ترصد تعديات الكلمة على تلك المحظورات، لكنَّ المفارقة أن عين الرقيب ذاتها كانت ولا تزال تتجاهل مثلاً تعديات حيتانِ المال على قوت المواطن!
الأمر لا يتوقف هنا، بل وبصراحةٍ مطلقة ليتهُ توقفَ هنا، لأننا في السابق كنا أمام عينِ رقيبٍ واحد قد تستطيع ببساطةٍ أن تراوغهُ باللعبِ على الألفاظ وتراكيب الجمل، قد تراوغهُ ببساطةٍ لأنك ككاتب عليكَ أن تعي بأن عين الرقيب تلك قد يستفزها تجاوز المحظورات، لكنك ببساطةٍ قد تلتقي معها بالثوابت، والمحظورات ليست دائماً ثوابت فالانتماء للوطن ثابتٌ، لكن الدفاع عن الموروث الديني مثلاً بما فيهِ من «مصائب» متوارثة نقلاً عن ناقل، هو ليسَ ثابتة لا بل هو محظور وشتان بين الاثنين!
اليوم تحولت عين الرقيب إلى رُقباء لكن ما يميزيهم عن السابقين أننا وفي الطريق نحوَ هذهِ الفوضى الملعونة أضعنا الثوابت، اليوم لديكَ عينُ رقيبٍ ستسخر منك إن تحدثت عن رفضِ التطبيع.. إياكَ أن تكتب لتدافعَ عن فلسطين بعد أن باعها أولي أمرِها حسبما يرى رقباءُ آخرون، إياكَ أن تكتب لتقولَ: إن أميركا لا تسقط بالصراخ والرد على جرائم الكيان الصهيوني يجب أن يكون واضحاً وصريحاً، لأن هناك رقباء في الجهة المقابلة سيتهمونك بالانهزامية وعدم الوعي لخطورة المرحلة!
لا تقترب بالدفاع عن أي مسؤولٍ رسمي لأنك ستصبح ببساطةٍ مستفيد، تصوروا أننا وصلنا إلى مرحلةٍ حتى أن أُعجبنا بها بأداءِ وزيرٍ ما، حتى لو أن وزارته لا علاقة لها بعملك لا من قريب ولا بعيد، فإننا نتردد في الإعلان عن هذا الإعجاب لأننا ببساطة سنكون وسط سهامِ الاتهام، فما العمل؟
ببساطة، العمل واضح وصريح، لندع كل هذه المفارقات خلفنا ليسَ فقط من باب إرضاء الناس غاية لا تدرك، لكنه الوفاء لرسالة الصحافة، تعني تحديداً أن من استراح طيلة الفترة الماضية من سطورنا عليهِ أن يدرك أن الأفكار قد تبقى حبيسة الخيال إلى أن تحين الساعة المناسبة لتحويلها على الورق، حتى ولو كان المتلقي قارِئاً واحداً فقط.
عادت الوطن.. يا لها من عودة..