د. عبد الله عبد الدايم.. رحلة حياة 1924- 2008 … رائد في بناء الإنسان وتربيته وأحد أعمدة التعليم في سورية
| إسماعيل مروة
ليس غريباً أن يسأل المثقفون عن مدينة عبد الله عبد الدايم، فهذا يقول حموي وذاك يقول: حمصي، وثالث يقول: شامي، ورابع يقول: حلبي، لأن عبد الله عبد الدايم كل هذه المدن كانت له، فهو حلبي المولد، تنقل بين المدن السورية بحكم عمل والده القاضي الشيخ أحمد الذي تعددت أماكن عمله، فهو قاض، وهو صاحب مكانة عالية، في وقت لم يكن فيه من وجود لمثقفين! فكيف من كان والده في مكانة سامية كالقضاء؟! ويحمل رتبة السيادة والمشيخة؟!
ولد في حلب، في بلاط مجد سيف الدولة والثغور العربية في مواجهة الروم عام 1924، وبسبب انتقاله مع والده القاضي جرّب مدارس المدن السورية في مراحله التعليمية الأولى، ولهذا أهمية في حياة من سيصبح التربوي الأكثر أهمية، ومن سيصبح الوزير للتربية، فقد عاين التعليم في سورية وفي مدنها حتى اكتملت مرحلته الثانوية في مدينة حلب. وفي المدرسة السلطانية أهمية كبرى:
– وجود نخبة من الطلبة المتميزين.
– وجود خيرة أساتذة ذلك الزمن كما قال.
– الاهتمام باللغات الأجنبية حيث درسها وبدأ الإتقان.
– الاهتمام بالفلسفة والتربية في هذه المدرسة، وربما كان لذلك علاقة بوجود مدرسين أكفاء متمكنين.
وهذه المدرسة عملت على:
– صقل الطالب عبد الله عبد الدايم.
– تعليمه اللغات والعناية بها.
– تحديد ميوله الفلسفية والتربوية.
لذلك عرف طريقه وقصده بشكل مباشر، وتقدم لبعثة محددة وهي دراسة الفلسفة.
الدراسة والتفوق
في كل مرحلة كان الدكتور عبد الله عبد الدايم متفوقاً، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تنقله مع والده وعمله في مختلف المحافظات السورية.
وتغيير المدارس في كل مرحلة، ويقاس اجتهاده وتميزه بصورة خاصة في عودته إلى الثانوية السلطانية بحلب، فهي متميزة وذات مستوى راق، وتهتم باللغات الأجنبية، ولولا أن الفتى عبد الله عبد الدايم كان متميزاً حقاً ومتفوقاً، لم يكن بإمكانه أن يجاري هذا التميز، بل أن يكون متفوقاً في الثانوية على مستوى سورية بقسم الفلسفة، ما أهّله للابتعاث إلى مصر لمتابعة الدراسة، وفي عام 1936 ومن جامعة فؤاد الأول، وقبل وجود التعاون السوري المصري، وقبل التعاطف وما شابه، كان عبد الله عبد الدايم متفوقاً، وعلى أيدي الأساطين من العلماء، وحصل على الإجازة من جامعة فؤاد الأول، ومع مرتبة الشرف الأولى.
وما بين عامي 1936- 1956 ظهرت علائم التفوق والتميز عند هذا الباحث المهم، فمع مرور عقدين من زمن، تقلب فيهما في مختلف المواقع والوظائف، في وقت كانت الوظيفة مهمة فيه، إلا أنه لم يتحول عن البحث والدراسة والتعمق.
فبسبب ريادته في ميدان التربية عاد مدرساً في حمص ودمشق، ثم صار أستاذاً في كلية التربية بجامعة دمشق، وصار رئيساً لقسم أصول التربية في الكلية، وذلك في وقت كان للمدرس فيه قيمة، وكان لمواقعه التي تبوأها مكانة، فلم يركن إلى الراحة والدعة، والموقع والريادة، بل تخلى عن كل موقع ومكانة، ليعود طالباً وباحثاً في جامعة السوربون، ويخضع للامتحان والدراسة، ويحصل على درجة الدكتوراه في الآداب بقسم التربية عام 1956، ومن ثم يعود إلى سورية وطنه ليباشر عمله في بناء الإنسان وتربيته، وليكون عماداً من أعمدة التربية في حينه يعترف بفضله طلابه وأصدقاؤه ومحبوه، سواء خالفوه في آرائه واجتهاداته أم وافقوه، باستثناء نفر من الأشخاص الذين أعمتهم الأيديولوجية والنظرة الضيقة عن إنصافه كما فعلوا وفعل سواهم مع غيره من البنائين الذين أسهموا في صياغة العلم والتربية والتعليم في سورية.. وما لقاؤنا اليوم وكثيرون- وأنا منهم- لا يعرف من عبد الدايم غير كتبه إلا الدليل على مكانته العليا في ميدان التربية والتعليم والفكر.
عبد الله عبد الدايم والمسؤولية
يسعى كثيرون لمواقع المسؤولية، وفي الوقت نفسه ينتقدون من يتولى المسؤولية! ولو كان انتقادهم لعمل المسؤول وأدائه لكان الأمر مقبولاً! لكن الانتقاد ينصب على الشخص وتوليه المسؤولية! أقف عند هذه القضية، لأنني عندما أرسلت الدعوات للأصدقاء والمهتمين والمبجلين، فأجأني واحد ممن أحترمهم، وسأبقى محترماً له، وإن اختلفت معه، برسالة مفجعة تقول: «لا يروق لي عبد الله عبد الدايم، فقد كان ممن عملوا في مجموعة لا أتفق معها» وكان جوابي له: لك ما تشاء، وأنا لا أختار من يروق لي لتكريمه، بل أختار من أسهم في بناء سورية، ولو وقع ظلمه عليّ شخصياً..
عبد الله عبد الدايم علامة علمية سورية وتربوية، وبعد عودته من السوربون عام 1956، ونلاحظ التاريخ، كان من الأعلام الكبار، ومن القلة التي وصلت الغاية في العلم آنذاك، ومن العار على أي سلطة ألا تنتقي المختمرين لتولي عملية البناء.
وما دام واحدنا في الشأن العام، فهو مطالب بأداء دوره سواء اتفق مع الجو العام أم لم يتفق، وهذا ما كان من شأن الدكتور عبد الدايم، الذي أسندت إليه دون سعي وزارة الإعلام لمرتين في عام 1962 و1964، ووزارة التربية عام 1966، وهذه المرحلة هي التي انصب عليه فيها نقد المؤدلجين في مرحلة ما بعد الانفصال، ومرحلة حزب البعث العربي الاشتراكي، وأستشهد هنا بما قاله أحد طلابه عنه على موقع الإنترنت، وأعتذر لأنه لم يذكر اسمه لأذكره من باب الأمانة العلمية على الأقل.. لم يتطرق بشكل واضح لكل المناصب المهمة والوزارية التي تولاها، إذ لم يرها إلا تجربة عابرة، لا يذكرها إن لم يتم تذكيره بها، ليس لمرارتها فحسب، بل لكونه يرى نفسه رجل تربية يعلو فوق التجارب، ويعمل في أسس الأمة وليس في مظاهر حركية عابرة أو انتقالية.
أظن أن هذا الطالب الجليل، وقد يكون من أساتذتنا العلماء أنصف أستاذه عبد الله عبد الدايم وكشف تجربته الوزارية، وقد ذكر المرارة والانتقالية، وعاد إلى أساس فكر عبد الدايم، بل إن معاصريه يذكرون خلافاته مع المحيط في وزارتيه، ليس من باب أيديولوجي، وإنما من الناحية العلمية التربوية التي تؤسس لوطن.
وأضيف قضية أخرى أستخرجها من حياته وسيرته العلمية، تدل دلالة قاطعة على مكانة عبد الدايم، فهو دعي لخبرته إلى عدد من الدول في القاهرة وعمان وغرب إفريقيا وبيروت وأوروبا عموماً وباريس والكويت وإلى مراكز الأبحاث، وفي كل مكان ترك أثراً عظيماً، تركه لأنه باحث وتربوي أصيل ومؤسس، وليس لأنه كان وزيراً، فكم من وزير رأيناه ينعزل وينتهي تواصله الاجتماعي والعلمي بعد انتهاء وزارته لأنه كان غير جدير بالوزارة أو بالعلم، لكن العلماء أمثال عبد الله عبد الدايم الوزارة والمنصب مرحلة انتقالية لا تضيف له إلا بمقدار ما يخدم وطنه، بل تثقل كاهله، والتخلص من المسؤولية يصبح غاية للعودة إلى الأصل، وسنعرض لمؤلفات عبد الدايم ومهامه بعد انتهاء الوزارة، لنتبين أن احترامه أكبر وتأليفه أعمق، واختماره أعظم.
فشكراً للمبجل الذي لم يرق له، إذ دفعني للبحث أكثر، وأقول: الوطني وطنيٌّ سواء كان ماركسياً أم قومياً أو بعثياً أو بورجوازياً أو فقيراً، أو ملحداً أو متديناً، وشعار الأيديولوجيا لا يعطينا وطنياً، ولا يخلق عالماً. وقد أثبتت لنا الأيام والوثائق لمن رحلوا، والحرب لمن هم على قيد الحياة أن الأيدولوجيات التي نتوهمها كانت كارثة، وأن السلطات المتوافقة قد تنقسم بالمصلحة على نفسها لتصنع الكوارث، وبأن الوطني والمنتمي يبقى وطنياً، وإن خالفني الرأي، ولكنه لا يخالفني في حب الوطن والانتماء إليه وخدمته بكل طريقة ممكنة.. وهذا ما كان من شأن الدكتور عبد الله عبد الدايم، من ولادته في حلب، إلى جولاته في أصقاع سورية والعالم وإلى رحيله عن عالمنا في باريس عام 2008.
أعماله
كثيرة هي أعماله وأنشطته ومؤلفاته وأبحاثه وإسهاماته ومشاركاته على مستوى العالم، وأذكرها كما دونت في سيرته وفي موقع يخصه بالإنترنت.
أ- أهم مؤلفاته التربوية باللغة العربية: 1- التخطيط التربوي، أصوله وأساليبه الفنية وتطبيقاته في البلاد العربية، بيروت، دار العلم للملايين- الطبعة التاسعة عام 1997. 2- التربية التجريبية والبحث التربوي – بيروت دار العلم للملايين- الطبعة الخامسة 1984. 3- التربية عبر التاريخ -بيروت- دار العلم للملايين- الطبعة التاسعة علم 1996 4-التربية العامة (مترجم عن أوبير) بيروت دار العلم للملايين -الطبعة الخامسة 1985. 5- التنبؤ بالحاجات التربوية تحقيقاً لأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية (مترجم عن باريس) بيروت المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية 1964. 6-الثورة التكنولوجية في التربية العربية، بيروت دار العلم للملايين –
ب- أهم مؤلفاته القومية والفكرية: 1-دروب القومية العربية -بيروت- دار الآداب 1958. 2-التربية القومية -بيروت- دار الآداب 1959. 3-القومية والإنسانية -بيروت- دار الاداب 1961. 4- الاشتراكية والديمقراطية -بيروت- دار الآداب 1961. 5- الجيل العربي الجديد -بيروت- دار العلم للملايين 1961. 6-الوطن العربي والثورة -بيروت- دار الآداب 1963 7-إسرائيل وهويتها الممزّقة. بيروت، مراكز دراسات الوحدة العربية، 1996. 8- دور التربية والثقافة في بناء حضارة إنسانية جديدة. بيروت، دار الطليعة، 1998. 9- نكبة فلسطين عام 1948: أصولها وأسبابها وآثارها السياسية والفكرية والأدبية في الحياة العربية. بيروت، دار الطليعة، 1998.
بين الترجمة والتأليف
إلى تلك الأعمال والمهام كان له أن يحتل مكانته المرموقة والسامية بين المؤلفين العرب بإنتاجه الغني والغزير الذي استند إلى سعة اطلاع ومعرفة بكل ما يصدر باللغة العربية واللغات الأجنبية، فنشط خلال دراسته الجامعية في الكتابة ونشر عدداً من المقالات الفلسفية والأدبية في جريدة «الأديب» البيروتية لصاحبها ألبير أديب، ولأن دراسته الفلسفة اليونانية والألمانية أتاحت له معرفة جيدة باللغتين اللاتينية والألمانية إلى جانب إجادته الفرنسية والإنكليزية، أغرته فلسفة المفكر الفرنسي برغسون، فاشترك مع د. سامي الدروبي في ترجمة كتابيه «منبعا الأخلاق والدين» و«الضحك»، وتمت طباعة الترجمتين في القاهرة في العامين 1945- 1946.
امتلاك د. عبد الدايم مقدرته الخاصة في التأليف شأن اختار أن يتفرغ له في النهاية، ليترك للمهتمين عدداً كبيراً من المؤلفات التربوية، كان أهمها كتابه الموسوعي بعنوان: «نحو فلسفة تربوية عربية» الذي صدر في العام 2000 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وكتاب «الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية» وصدر أيضاً في العام 2000 عن دار العلم للملايين في بيروت، وعلى مدى ما يقارب الخمسين عاماً أو يزيد قدم عدداً من المؤلفات تناول فيها القضايا القومية والفكرية، كان منها كتابه «دروب القومية العربية» عن دار الآداب في بيروت عام 1958، وكتاب «العرب والعالم وحوار الحضارات» مؤلفه الأخير الذي صدر عن دار طلاس في دمشق في العام 2002، ولم تقتصر كتاباته ومؤلفاته على ما يختص بالداخل العربي، فاتسمت في المراحل الأخيرة من حياته بالتركيز على علاقة تبادلية وتفاعلية مع الآخر، أي علاقة العالم العربي بغيره من دول العالم، ذلك أن تجديد الثقافة لا يعني تقليد الغرب، بل يعني تحديثها من الداخل وعن طريق تفاعلها مع الثقافات الأخرى، الأمر الذي أوضحه في لقاء تلفزيوني معرفاً بمعنى الثقافة وضرورتها، إذ «الثقافة إرث مشترك يغتني عبر الزمان ويتجدد، وكل إرث ثقافي لا يتجدد معرَّض للتخلف والضعف والموت. ومن هنا نؤمن بضرورة تلاقح الثقافات، ولكننا لا نؤمن بعولمتها، فعولمة الثقافات تعني تسطيحها جميعها وتعني القضاء على الألحان المتنوعة التي ينبغي أن تضمّها «سيمفونية» الثقافة العالمية الإنسانية المرجوة».