ساطع الحصري رجل الدولة ومُنَظِّر القومية العربية «1» … عاش عمره للقومية وصار الأب الروحي لها .. من صنعاء إلى دمشق وبغداد والقاهرة رحلة من القومية
| إسماعيل مروة
حمل لواء الفكر القومي، فارتبط اسمه باسمه، وتحوّل إلى أبٍّ روحي لفكرة القومية العربية في تاريخنا المعاصر، وهناك كثيرون يوازنون بين ساطع الحصري في الفكر القومي عامة، وزكي الأرسوزي في فكر البعث.
هذا في الوقت الذي نجد فيه كثيرين يشككون بساطع الحصري، وبنظريته القومية، أو بتعبير أدق نظرته إلى القومية العربية، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك في التشكيك بمعارفه وعلمه وطروحاته، بل في نياته الفكرية والعلمية، واليوم لا وجود له بيننا، وعلينا أن نتعامل مع إرثه المكتوب، وما خلفه لنا من رؤى فكرية، وشواهد على المرحلة التي قضاها..
كما إنه من الواجب على المؤرخ والباحث المنصف أن يعيش عصر ساطع الحصري، وأن يشاركه همومه ورحلاته، وأن يعيش في ظروفه التي عاشها، ليتمكن من استخلاص المجريات على أرض الواقع، لا أن يخضعه لرؤاه هو، ولا لتطلعاته هو، وهو الذي مرّ قرن من الزمن على المسافة التي تفصلنا عنه، فهو شاهد الدولة العربية الأولى، وشاهد يوم ميسلون ليوسف العظمة، وكان فيها وزيراً وفاعلاً، أنا هنا لا أدافع عن ساطع الحصري، بل أمارس عليه عملية الأنسنة الطبيعية، فما قدمه عن يوم ميسلون يكاد يكون وحيداً لشاهد، أم إننا سنتبع أهواء الذين زعموا أن العظمة فرّ من المعركة! أو الذين قالوا: العظمة انتحر، وقد مرّ في ندواتنا التوثيقية ما قاله العلامة الطبيب حسني سبح عن العظمة ومعاينته لجثته والقيام بدفنه في ميسلون مع نخبة من الأطباء الشهود، ومع ذلك ولأننا لا نقرأ ولانتابع حتى قضايانا، لا يزال بيننا من يشكك في انتماء العظمة، وإن كان تركياً، وعن ولائه، وعن مشاركاته في حروب البلقان، دون أن يلتفت هؤلاء إلى شهادات الفرنسيين عن العظمة نفسه وبطولاته!
وذهب بعضهم أبعد من ذلك، فالتساهل في وصية يوسف العظمة ابنته ليلى ردّه بعضهم إلى أنها ذهبت إلى أهلها في الأناضول، هي ذهبت وعاشت هناك، لكن هل حفظنا وصيته لتبقى متجذرة في الأرض السورية الوطنية؟!
هكذا يجب أن نتعامل مع التاريخ والقامات والشخصيات من وجهة نظري على الأقل، ودون ذلك سنبقى في دائرة التخوين والرفض لكل ما هو مميز لدينا ومتمايز في سطوعه، فماذا عن ساطع الحصري رجل الدولة؟
وماذا قدم الحصري؟ أين أخطأ؟ أين أصاب؟ وبعدها يمكن أن نقوّم التجربة لنخرج إلى مرحلة أفضل وأعلى، ونتجاوز الشخص الذي طرح آراءه ورحل، تاركاً إرثاً ضخماً فكراً وتاريخاً ونظرية قومية حملت اسمه بكل حسناتها وطزاجتها وسلبياتها.
أترك الجوانب الفكرية والفلسفية للمختصين، وأكتفي باستعراض جهود ساطع الحصري في بناء الدولة السورية الأولى عندما حملت اسم المملكة، وحتى تخصيص حياته من أجل الفكرة القومية العربية تقليداً للقومية الطورانية، أو تتبعاً لخطاها، أو لأي غاية يراها الباحثون!
يمكن أن ننحّي الغاية جانباً، وأن نبني على تراث علمي وفكري وعملي قدمه الحصري في مرحلة كان فيها علماً يشار إليه، ولا يمكن تجاوزه بغض النظر عن الأسباب التي جعلته كذلك.
التنقل وطبيعة المرحلة
ولد في صنعاء اليمن 1879، وأصله من الحجاز، وقدمت أسرته إلى حلب في القرن التاسع الهجري.
عمل إدارياً عثمانياً في البلقان.
عمل مع الملك فيصل في الحكومة العربية.
صار وزيراً للمعارف في سورية.
فاوض غورو شخصياً قبل ميسلون.
غادر إلى العراق مع فيصل وتولى المعارف والثقافة.
عمل في جامعة الدول العربية.
توفي 1968 ودفن في بغداد.
ليس حديثاً في السيرة، وليست الغاية تناول حياته الخصبة بالتعداد وفقط، بل إن الحديث هنا يتناول جانبين:
– طبيعة المرحلة.
– المؤثرات في فكره ونظريته.
طبيعة المرحلة
نسمع كثيرين يحاكمون الناس، والأعلام خاصة، من منظور حياتي يحبونه هم، ومن هؤلاء الأعلام الذين نالهم نقد قد يكون صحيحاً وقد يكون ظالماً ساطع الحصري، ولكن الحكم النقدي الحقيقي يجب أن يذهب بالناقد إلى تلك المرحلة التي عاشها الشخص المدروس، فلا يجوز أن ننتقد العصر الإسلامي من منظورنا، ولا أن نقوّم حركة القرامطة، وحركة الزنج من منظورنا، ولا حركة الصعاليك وفق رؤانا..!
بل علينا أن ندرسها على حقيقتها في زمنها، فكم من الناس ظلموا البرامكة، وكم منهم من ظلم الرشيد!؟ وكلا الجانبين يملك جزءاً من الحقيقة والصواب.
إن محاكمة الناس من منظور قومي أو ديني أو أيديولوجي توصلنا إلى أحكام خاطئة وخطيرة، فمع المدّ الاشتراكي ظهرت دراسات تبين لنا الصعاليك أحفاد ابن الخطاب! بل أحفاد كارل ماركس!
وهذا خطأ جسيم، حدث للبرهنة على وجود اشتراكية لدينا أو حركات ثورية من منظور المؤدلجين كما في حركة الزنج أو القرامطة أو البرامكة، وهي لم تكن كذلك وإنما بنت مرحلتها.
هذا الحديث للدخول في عالم أبي خلدون، ساطع الحصري، فهو بلا مراء وبلا تحفظ عربي النجار والفكر، حجازي الأصل، يمني المولد، دمشقي الهوى والولاء، عراقي العمل والوفاة، عربي الغايات، وعثماني العصر والمرحلة، إذ وجد في زمن كانت الدولة العثمانية هي الحاكمة، وليس بمقدوره أن يخترع دولة تناسبه، وهو في كتاب من أهم كتبه نشر عام 1957 (البلاد العربية والدولة العثمانية) يظهر بجلاء، ومن منظور عصره، فقدم البلاد العربية كأصقاع، والدولة العثمانية جاءت تالية لأنها التي تملك مفهوم الدولة الحاكمة، وهذا تقرير واقع للمرحلة التي عاشها، فالبلاد العربية مفرقة لا تشكل دولة بالمفهوم الذي يريده، ولكنها تخضع لحكم دولة هي الدولة العثمانية، وقد شكك بعضهم بساطع الحصري وعمله في الدولة العثمانية! وفي تلك المرحلة لم يكن بإمكانه أن يعمل ضمن إطار الدولة إلا في منظومتها.. يبدأ كتابه.. استولت الدولة العثمانية على معظم البلاد العربية، خلال القرن السادس عشر، في مدة لا تتجاوز الأربعين عاماً، بدأت حركات الاستيلاء سنة 1516 حين انتصرت جيوش السلطان سليم العثماني على جيوش المماليك في مرج دابق بالقرب من مدينة حلب.. وبعد ذلك أخذ العثمانيون يتغلغلون غرباً وشرقاً وجنوباً، ويستولون على البلاد العربية.. إن البلاد العربية بقيت تحت الحكم العثماني على الرغم من بعض الثورات التي قامت والوقائع التي حدثت في بعضها في تواريخ مختلفة حتى القرن التاسع عشر.. ثم صارت تخرج عن نطاق هذا الحكم، الواحدة بعد الأخرى، في تواريخ مختلفة، وبصور شتى .
نلاحظ هنا نقاطاً عديدة:
1- العثمانيون (استولوا) وهذا تعبير يدل على قناعته بأنهم قوة احتلال.
2- انتصروا على المماليك، وليس على العرب، فالدولة غير عربية.
3- حال التردي العربي جعل الصراع بين دولتين غير عربيتين.
4- أربعون عاماً كانت كافية لاحتلال البلاد العربية.
وفي كتابه يذكر الحصري بعض الوثائق والمراسلات، التي قد يغض الطرف عنها كثيرون، فالسلطان مراد الثاني، يرسل لعزيز مصر عند فتح سلانيك:
«الحمد لله الذي أعدّ أعلام الدين، بإعلاء كلمة الحق المبين، ورفع لواء أهل الإيمان بلمعان بارقة سيوفهم على ظلمات الكفرة والمشركين، وفتح علينا أبواب النصر والظفر بكسر أحزاب الشياطين، وبلاد الكفار الملاعين» .
أما السلطان محمد الثاني فيرسل من جانبه لعزيز مصر (أينال شاه) بمناسبة فتح القسطنطينية «إن من أحسن سنن أسلافنا، أنهم مجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ونحن على تلك السنة قائمون، وعلى تلك الأمنية دائمون، ممتثلين بقوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله» ومتمسكين بقوله عليه السلام (من اغبّرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) .
فأسس الدولة العثمانية هي أسس دينية، حتى لقب حاكم مصر (عزيز مصر) وهو ليس عربياً كما يدل اسمه (أينال شاه) فعن أي شيء نلوم ساطع الحصري؟! بل إننا يجب أن نشكر بحثه في تلك المرحلة التي عاشها، فهو يظهر بما لا يقبل الجدال الأسس التي بنيت عليها الدولة العثمانية لحكم البلاد المحتلة، ومنها البلاد العربية، وفي الوقت الذي نجد العبارات حتى لدى المتخصصين إنشائية كانت الأمور واضحة لدى الحصري، فتتبعها كرجل فكر ونظرية، ورجل دولة.
«إن أول من أثار مسألة بناء الدولة على أساس العثمانية أو الإسلامية أو الطورانية، كيوسف آقجورا، كان من أتراك روسيا، من نواحي قازان على نهر الفولغا، درس في جامعة أورنبورغ في روسيا، ثم واصل الدراسة في مدرسة العلوم السياسية في باريس، فإن نظراته إلى الأمور مجردة من تقاليد السلطنة العثمانية، جعلته يحسن تقدير أهمية مبدأ القوميات في توجيه السياسات.. ولكن هذه الأمور لم تتبلور في أذهان رجال السياسة تبلوراً كافياً لجعلها موضوع خطط حزبية وسياسية، حتى إن جمعية الاتحاد والترقي نفسها لم تر لزوماً لتقرير خطة صريحة في هذا المضمار» .
ولعل أهم ما في الكتاب متابعة ساطع الحصري لاحتلالات البلدان العربية، وتدوينه للمفاوضات والاتفاقات من عام 1912 مع فرنسا وبعد ومع بريطانيا وألمانيا، ومن ثم تفصيله في الولايات وإدارتها وقوانينها، وسلاطين آل عثمان..
كان بإمكان ساطع الحصري أن يتجاهل هذه المرحلة، لكنه بفكرته القومية كان يرصد الحركات بدءاً من دولة الاحتلال ويتابعها، ورؤيته كرجل دولة يؤمن بالدولة وأهميتها، وقواعد تشكيلها جعلته يبحث في مكونات الدولة، بادئاً كذلك من دولة الاحتلال.
بهذه النظرة العلمية الناقدة والتي ترى العثمانيين احتلالاً واستيلاء تناول الحصري المرحلة، ومن حقه علينا أن ندرسه وفق مرحلته التي عاش فيها، ولم تكن البلاد العربية سوى قطع يحتلها المماليك ومن ثم العثمانيون، ومن بعد ذلك الأوروبيون، كما يصف الحصري نفسه احتلالات البلاد العربية.
وربما دفعت الأحداث التي تجري اليوم على الأرض العربية إلى إعطاء فكرة عن بلداننا العربية التي لم تتحول بعد إلى مفهوم الدول القومية إلى التفكير بأن البلاد العربية على الدوام جائزة يتفاوض عليها المحتلون الأقوياء ويعقدون الاتفاقات، وأهلها غائبون!
أما من وجود لبريطانيا اليوم؟
أما من تدخل لفرنسا؟
أما من أطماع لإيطاليا؟
أما من نهم سلطاني عثماني؟
أضف إلى ذلك الدولة الجديدة التي ترى في البلاد العربية كنزاً من الثروات، وطريقاً لا يتخلى عنه الطامع لدرب التجارة القادم.