اليوم وفي ظل الضغوطات العالمية عموماً والمحلية خصوصاً، هناك كثر ممن هاموا ضائعين، يعيشون الحياة من دون أن يدروا معناها، أو يحاولوا استكشافها، لا بل الأوجع أنهم يستسلمون بشكل كامل بقبولها وهي لا تمثل لهم أي معنى، حتى إننا غريبون عما يمكن تسميته «التجربة المثالية» والتي هي النشوة التي يصل إليها الشخص حينما ينجز هدفاً كان قد صمم على تحقيقه.
تعالوا لنبحر معاً في تجربة مثالية مع كتاب «علم نفس السعادة» لمؤلفه ميهالي سيكزنتميهالي، ترجمة د. غسان بديع السيد، لنكتشف عبر التقليب السريع والموجز بفصوله، كيف يمكننا أن نجعل للحياة معنى.
التجربة المثالية
في مقدمة المترجم د. غسان بديع السيد يقول: إن التجربة المثالية تعتمد على عوامل داخلية، وحين تعتمد على عوامل خارجية فإنها تفقد جوهرها، متابعاً: إن من يعتمد على جماله وماله وقوته من أجل الحصول على المتعة لا يستطيع الوصول إلى التجربة المثالية، لأنه لا يسيطر على وعيه، فقلما يكون للشخص الغني والقوي والمعافى حظوظ أكبر في السيطرة على وعيه من شخص آخر مريض وفقير ومقموع.
مضيفاً د. السيد كيف أن مؤلف الكتاب ضرب أمثلة كثيرة عن حالات لعلماء مثلاً قدموا خدمات جليلة للبشرية، ورغم أن الظروف التي واجهتهم كانت صعبة للغاية، إلا أنهم بالإرادة والتصميم تجاوزوا المصاعب ووصلوا إلى عيش التجربة المثالية، لأنهم التزموا بمشروعات أكبر من الذات.
مشيراً المترجم د. السيد إلى أن المؤلف اعتمد في أبحاثه على منهج سمّاه «منهج العيّنة للتجربة المعيشة ESM»، طبقه على حالات كثيرة في بلدان العالم وفي عدد كبير من الأنشطة، خاتماً بأن هذا الكتاب من أعمق الكتب في تحليل النفس البشرية وتحتاجه المكتبة العربية ويهم كل شخص يسعى إلى اكتشاف ذاته قبل أن يحاول اكتشاف العالم.
مواجهة الضغط النفسي
لأننا نواجه ضغوطات نفسية على كل الصعد، اخترنا هذا العنوان كي نتحدث تحت سقفه عن القدرة على التصرف في مواجهة الضغوطات النفسية ويكون ذلك على ثلاثة صعد:
1- الدعم الخارجي القادم بصورة رئيسة من الشبكة الاجتماعية، وبنتيجتها سيكون المرض مثلاً أقل صعوبة إذا كان لدينا تأمين صحي جيد وعائلة محبة.
2- المصادر النفسية للفرد مثل الذكاء والمستوى التعليمي والسمات الشخصية المناسبة، وبالنتيجة كمثال سيكون الانتقال إلى مدينة أخرى وضرورة التعرف إلى أصدقاء جدد أقل صعوبة على الشخص المنفتح من الشخص الانطوائي.
3- إستراتيجيات مواجهة الضغط النفسي وذلك يكون عبر طريقتين: الطريقة الإيجابية التي يسميها «إستراتيجية النضج»، والطريقة السلبية «الدفاع العصابي».
ونختم هنا بالعبارة التالية: يقال عن أولئك الذين يحوّلون المآسي إلى تجارب إيجابية إنهم يستفيدون من الصمود. هذه القدرة وهذه الشجاعة اللتان تساعدان على تجاوز الأوقات الصعبة هما صفتان ومثار إعجاب إلى حد كبير. هذا الذي أشار إليه فرانسيس باكون وهو يستعيد خطاب الفيلسوف سينيكا: الأشياء الجيدة التي تأتي في حالة الرخاء مرغوب فيها، لكن الأشياء الجيدة التي تأتي في حالة المصيبة تصبح مثار إعجاب.
العثور على حلول جديدة
الأولويات ليست ثابتة، لهذا علينا أن نكون مطواعين كي نتمكن من تجاوز كل ما يصادفنا، الأمر ليس بالهين حقاً، ولكن كتاب «علم نفس السعادة» يساعدنا في العثور على حلول جديدة لمواجهة المواقف التي تخلق الفوضى النفسية وذلك عبر طريقتين: الطريقة الأولى تهدف إلى التركيز على العقبة التي تمنع تحقيق الهدف المتابع ورفعها وإعادة الانسجام إلى الوعي (مقاربة مباشرة). على حين تهدف الطريقة الثانية إلى النظر إلى الموقف في كليته بما في ذلك الذات نفسها، والتأكد من أن أهدافاً أخرى لن تكون أفضل، وإيجاد حلول ممكنة مختلفة (مقاربة غير مباشرة). ولإيضاح الفكرة أدرج المؤلف مثالاً: أنت كموظف في شركة، من الممكن أن يسند إليك منصب نائب مدير، المنصب ذاته ربما يذهب لزميلك لأن له علاقة جيدة مع المدير، هنا أنت أمام خيارين، الأول: محاولة إقناع المدير بأنك المرشح المثالي (مقاربة أولى)، وإما أن تنتظر مجموعة من الإمكانات منها: تغيير القطاع، تغيير قسم الشركة، تغيير المهنة، تخصيص وقت أكبر للعائلة، وبالنتيجة لا يوجد حل أفضل من القرار الجيد الذي سيناسب أهدافك ويضاعف سعادتك في الحياة.
خلق المعنى
في الختام لابد من طرح بعض التساؤلات، هل توجد منظومة جديدة من الأهداف والوسائل التي تعطي معنى للحياة بما أن المستقبل مظلم؟ يقول هنا المؤلف: يجب إيجاد إيمان جديد يأخذ في الحسبان عقلانية الأشياء التي نعرفها ونشعر بها ونأملها أو نخشاها، يجب إيجاد منظومة من المعتقدات توجه الطاقة النفسية نحو أهداف تحمل معنى، منظومة تمنح قواعد حياة مناسبة للتجربة المثالية، وبالتالي يجب البحث عن منظومات قادرة على تغيير العلم ليكون لدينا علم اندماجي يربط بين المعارف وبين الإنسانية ومصيرها. وبالمقابل الإيمان لا ينحصر بما هو موجود لكنه ينظر إلى ما يجب أن يكون أيضاً، يمكن للإيمان بالتطور أن يؤدي إلى اندماج مثمر بين ما هو موجود وبين ما يجب أن يكون، بمعنى أن الفرد الذي يعرف بشكل أفضل ما هو موجود ولماذا يتصرف يستطيع برأي المؤلف أن يحدد تأثير الغرائز والرقابة الاجتماعية، وهي عناصر تسهم في تشكل الوعي الذي اختلفت مفاهيمه التي حققتها البشرية، فهذا الاختلاف أنتج العلم والتطور التقني والسيطرة على المحيط، وأخيراً لتحقيق أو لخلق المعنى يجب أن تذوب كينونة الإنسان الفرد بالكينونات الأخرى من دون أن يفقد كينونته، ولكي ينجح يجب أن يدرك بأن للكون منظومة تدار بقوانين عامة، ومن غير المناسب أن يفرض الفرد رغباته الشخصية بل من الأفضل أن يتآلف مع المنظومة المحيطة من خلال ترسيخ أسس القبول والتعاون بدلاً من محاولة التحكم.