ثقافة وفن

ساطع الحصري رجل الدولة ومُنَظِّر القومية العربية «2» … التاريخ يجمع الأمة مهما كانت شرائع الناس

| إسماعيل مروة

المؤثرات في فكره ونظريته

أبوّة ساطع الحصري للفكر القومي، من حيث هي فكر لا يتطرق إليها شك، وبالمناسبة هناك من يشكك بعروبته ونظريته عن جهل أو حقد، وذلك لأن الحصري عربي أصيل، وعمل في الدولة العثمانية، فالدولة هي التي تستوعب مواطنيها، سواء كانت دولة وطنية أم دولة مستولية محتلة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نحاسب كل الذين مارسوا أعمالهم وانضووا في العمل الوظيفي تحت مؤسسات الدولة الحاكمة، وإلا بقي الحصري وسواه هائماً على وجهه يبحث عن لقمة عيش أو يموت قهراً.. أعود لأقول: إن أبوّته للفكر القومي العربي كانت حقيقية وارتكزت إلى مجموعة من الركائز التي لا يمكن إنكارها.

إن المرتكزات جعلت رؤية ساطع الحصري رؤية شاملة، غير إقصائية، وغير متعصبة، وقابلة للتحقيق، وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت ساطع الحصري محط انتقاد من دعاة الوطنية والقطرية، أو من دعاة الرابطة الدينية التي كانت سائدة، والتي أشرت إلى توثيقه لها في مراسلات بين السلطان العثماني وعزيز مصر، وكلاهما غير عربي، إضافة إلى استخدام صفتي السلطان والخليفة من الدولة والبلاد العربية، وما في ذلك من دلالة دينية عميقة، واستغلال التعبير القرآني عزيز مصر، ما بين العزيز الذي ورد في القرآن الكريم، ويوسف، والحاكم شاه الذي يحكم مصر تحت رابطة دينية، من مصلحة السلطنة وعزيز مصر أن تبقى سائدة لإلغاء الشخصية العربية المستقلة، والتي بلورها الحصري دون سواه بفكرة القومية العربية، ففي كتابه المهم «نظرة عامة- نشوء الفكرة القومية» والذي يرافقه عنوان فرعي (الانقلابات السياسية التي نجمت عنها في أوروبا منذ أوائل القرن التاسع عشر) نجد خلاصة الفكر القومي وتحليله عند الحصري، ولا يقتصر الأمر على القومية العربية، فنحن أمام باحث يحاضر عام 1948 في القاهرة سلسلة من المحاضرات تقدم خلاصة تجربته وقراءاته وجولاته، فالفكر القومي عنده ميداني غير مثالي.

يربط ساطع الحصري بحذق بين مفهومين:

1- مفهوم القومية.

2- مفهوم الدولة.

وهو لا يصف الدولة بالقومية، وإنما يرى أن الفكرة القومية كانت سبباً للبحث عن مفهوم الدولة، دعا إليها حسب التكتل وتشكيل هوية، ويرى كذلك أن الفكرة القومية طريق لنشوء الدولة، ومن ثم يتم البحث عن تكتلات أخرى تكون القومية منطلقاً لها، وهو ما حدث في أوروبا ووصفه بالانقلابات، ففي غمرة الاحتلالات والاستيلاءات وغياب الهوية لابد من شيء جامع وهو ما أطلق عليه الدعوة القومية، وسنقرأ له حديثه عن الدعوات الأخرى كالإقليمية والدينية، إذ يرى أن الأولى تسعى إلى التضييق والقوقعة، والثانية تضيع الهوية التي يبحث عنها، والدعوة الإقليمية تخلق سياجاً يصعب معه نشوء تكتل الدولة، والدعوة الدينية تتماهى فيها الحدود التي يمكن أن تشكل دولة.

فالأهمية الأولى لفكر الحصري تكمن في أن نظرته ونظريته في صلب تأسيس كيان الدولة التي قد تلجأ إلى تكتل أكبر بعد أن تكتمل كما حصل في أوروبا، وهو إذ يضع هذه الأطر بعد أن عاينها، وهو في قلب النخبة السياسية والفكرية ليس صاحب اتجاه سياسي أو حزبي، وليس صاحب سلطة ليسخر الفكر لصالحه، وهذا ما حصل مع جميع منظّري الأحزاب القومية التالية التي حرصت على تقديم النظرية بما يخدم توجهاتها.. وهذا ما جعل آراء الحصري صالحة لأي توجه قومي، لأنها خالية من الغاية والغرض!

العمق الذي ينطلق منه الحصري يقوم على دراسة الدولة ومفهومها، وعلى نشوء القوميات، أي مرحلة ما قبل القومية، ومرحلة القومية، بل ويتابع إلى ما بعد القوميات، فهو يسلّم بضرورة الفكرة القومية، ويسلّم بأن الفكر القومي يمثل مرحلة من مراحل تكوّن الأمم والدول «نشأت هذه الفكرة، وأخذت تتغلغل في النفوس، في أوائل القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي كانت معظم الدول القائمة في أوروبا مؤسسة على أسس تختلف عن مقتضيات مبدأ القوميات اختلافاً كلياً، إذ كان هناك دول كثيرة، تحكم كل واحدة منها أمماً عديدة، كما كان هناك أمم عديدة توزعت كل واحدة منها بين دول كثيرة.. كان من الطبيعي أن تتفكك أوصال الدول المؤلفة من أمم متعددة، وكان من الطبيعي- بعكس ذلك- أن تتحد أوصال الدول التي تنتسب إلى أمة واحدة» .

يعالج هنا الحصري مسألة الاستعمار والاستيلاء، فنحن أمام نوعين من الدول غير المتجانسة، والتي لا تقبل الحياة:

1- دول كبيرة تحتوي أمماً عديدة.

2- أمم موزعة على أكثر من دولة محتلة.

ويستخدم الحصري هنا تعبير الأمم المعادل لمصطلحه العربي (البلاد العربية) ويضرب لذلك الأمثلة في حديثه عن الدولة العثمانية والدولة النمساوية والألمانية ليظهر وجود التشابه بين فئات من الناس الذين يشكلون أمة، ويمكن أن يشكلوا دولة متجانسة وفق مواصفات، وهو ما أطلق عليه مصطلح (القومية). فالقومية العربية لم تكن بدعاً، فالبلاد العربية، أو الأمة العربية ضمن خليط دولة غير متجانس، وهي الدولة العثمانية، ومن تجربته خلال عمله ضمن الدولة في البلقان درس الاختلافات بين أمم البلقان والدولة العثمانية، ما أدى في النهاية إلى تفكك الدولة العثمانية، وهو بهذه الإشارة يعطي السياق التاريخي للنزعة القومية التاريخية العريبة، ويبعدها عن مفهوم الانفصال والخيانة لدولة الخلافة الإسلامية كما يزعم كثير من العرب الذين يجدون في الرابطة الدينية كفاية للاستمرار، ويتغاضون عن الممارسات القومية للدولة الحاكمة، ويجدون المسوغات للممارسات الاحتلالية والاستيلائية تحت بند التصرفات الفردية أو الحزبية أو السياسية، متناسين كيان الدولة المتجانسة نوعاً ما.

«إن تأثير نظرية وحق القوميات، في الأوضاع السياسية والدولية، ظهر شيئاً فشيئاً، وفي مملكة بعد أخرى، واستوقف أنظار الكثيرين من الكتّاب والمفكرين، خلال سير هذه النظرية واختمارها، وكان البعض يستبشر بها، والبعض منهم يتوجس خيفة منها، والبعض يدعو إليها، والبعض يناهضها، وكل ذلك حسب ما كان يتوقع منها لبلاده من المنافع والأضرار» .
وفي نظر آخرين عمل على هدم دولة الخلافة الإسلامية، وكان من المعاول ذات الغرض التي أدت إلى انتهاء دولة، وينسى هؤلاء ما كان من تصرفات الدولة تجاه البلاد العربية التي تقع تحت حكمها!
خوّنوه وشككوا به، وهو لم يفعل، مع أنه أصدر كتابه نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
وها هو يحدد في دراسته عناصر القومية، ويختار عناصر مهمة وقابلة للتحقيق:
«إن اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران، أشد التأثير في تكوين القوميات، ونستطيع أن نقول: إن اللغة بمثابة روح الأمة وحياتها، والتاريخ بمثابة وعي الأمة وشعورها، والأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها، وأصبحت في حالة السبات، وإن لم تفقد الحياة، وتستطيع هذه الأمة أن تستعيد وعيها وشعورها، بالعودة إلى تاريخها القومي، وبالاهتمام به اهتماماً فعلياً، ولكن الأمة إذا فقدت لغتها تكون عندئذ فقدت الحياة ودخلت في عداد الأموات» .
وهو في هذا التصور كان سابقاً على جميع المنظّرين القوميين العرب، وكان واقعياً، إذ جعل ما لا خلاف فيه الجامع القومي، ونلاحظ أنه كان أكثر جرأة من كثير من القوميين الذين جمعوا بين القومية والدين وجعلوا تطابقاً ما بينهما، فيما نجد أن الحصري جعل الأعم والأشمل.

وهو التاريخ مع اللغة، فالتاريخ يجمع الأمة مهما كانت شرائع الناس وتبقى الشريعة شأناً فردياً يضم الأفراد إلى جماعات، لكنه لا يشكل حالة من التنافر بين المتضادات، وهو ما جعله يشير ببراعة إلى ما فعله المستعمرون، ومن بين ذلك ما فعله العثمانيون من محاولة إلغاء التاريخ وحصره بالعقيدة التي يمكن أن تكون مسوغاً لضياع الهوية وبقاء الاحتلال، واللغة هي الهوية، وفي هذا المجال يجعل الحصري في مجمل أبحاثه التاريخ واللغة بالتضامن والتضافر، وليس باللزوم، فإن تعذرت اللغة في بعض الأحيان يجمع التاريخ، وإن للتاريخ المشترك هو الذي يجمع الشرائع كلها ويجمع اللغات المتعددة، ويحدد حياة مشتركة تبدأ من عمق التاريخ الحضاري وتمتد إلى النهاية، والتاريخ قادر على الجمع بين الحضارات المتعاقبة للأمة القومية دون أن ينفي جانباً لحساب آخر، ودون أن يلغي كرمى لشريعة أو لغة.

كما إن اللغة تشكل عند الحصري الإطار العام للحياة والتفاهم، أي اللغة المتداولة التي لا تنفي الآخر، ويمكن أن نجد أن مفهوم اللغة مطواع وظيفي للحياة، فكل الشرائح في المجتمع تجمعها العربية، لغة تفاهم وحياة وكسب عيش، من القوميات المتعددة، فهذا الكردي وذاك الأرمني، وذاك السرياني والآشوري وغيرهم كثير، بل إن عدداً من هؤلاء برع في علوم العربية أكثر ممن يدعون الأرومة العربية، وليس من ضرورة لذكر الأمثلة الكثيرة.

ساطع الحصري رجل الدولة

عمل الحصري في مواقع عديدة ضمن الدولة العثمانية التي تخضع لها البلاد العربية، فعمل في البلقان واطلع على تجارب وهو في ذلك يشبه ما كان من أمر يوسف العظمة الذي كان ضمن جيش الدولة، وعندما انهارت الدولة العثمانية كان من الطبيعي أن يعود أبناء البلاد إلى بلدانهم، فعاد العظمة المقاتل العنيد ليكون أول وزير للحربية في الدولة العربية في سورية، وعاد ساطع الحصري ليكون وزيراً كذلك في الدولة العربية مملكة سورية مع الملك فيصل، وهنا ظهرت ملامح رجل الدولة عند ساطع الحصري، وإن كانت في سورية قصيرة مقتضبة جرّاء الاحتلال الفرنسي بعد معركة ميسلون، إلا أنها كانت فاعلة وغنية للغاية، ومن حسن الحظ أن ساطع الحصري كان كاتباً وشاهداً وإلا لضاع الكثير من التاريخ واختفت تفاصيل مهمة.
الحصري وميسلون واحتلال سورية: يثير الاستغراب أن الحقبة التاريخية القريبة 1920 لا نمتلك عنها مقومات موثقة ودقيقة، وبعض المؤرخين يتعاملون معها كما لو أنها في القرون الماضية السحيقة، فاليوم الفاصل في تاريخ سورية الحديث يخضع لتأويلات وتخرصات من الكاتبين والباحثين، فهذا يشكك وذاك يدافع وفقاً للنوازع، وأهم ما لفتني أنني منذ عقدين أردت دراسة ميسلون ويوسف العظمة فلم أجد مؤلفات مخلصة للموضوع، وعندما أصدر الباحث السفرجلاني كتابه عن ميسلون أشار إلى الفقر الشديد في المراجع وأغلب الذين درسوا ميسلون ومجرياتها لم يتميزوا بالعمق، وإنما كانوا مجرد مقمشين، يعتمدون القص واللصق، ويأخذون معلومة من هنا وأخرى من هناك.

وحده ساطع الحصري قدّم كتاباً له قيمة بعنوان «يوم ميسلون» وقد أحسنت وزارة الثقافة بإعادة طباعة الكتاب، وحبذا أن يطبع مرة جديدة بآلاف النسخ لتكون للطلبة في المدارس.. وهذا الكتاب له ميزات كثيرة:

– معايشة الحصري ليوم ميسلون.

– مشاركته في الحكومة العربية.

– مشاركته في المباحثات مع غورو تحديداً.

– احتفاظه بمحاضر الجلسات والحوارات.

– شهادته بمواقف الأشخاص الذين في السلطة.

– مراقبته أدق التفاصيل وهو في موقع رجل الدولة.

وحين قرأت يوم ميسلون أكبرت ما فعله الحصري للاحتفاظ بالوثائق والمجريات التي لا يستطيع أحد أن ينكرها، ولم يأت بها أحد سواه من المؤلفين المهوّمين والبعيدين زمنياً أو روحياً عن ميسلون، فماذا قال رجل الدولة ساطع الحصري في ميسلون وفي يوسف العظمة، وماذا نقل إلينا من محادثات ومجريات؟

«قدر لي أن أكون في تلك الأيام في قلب المسرح، في موقف خاص يسر لي الاطلاع على جميع صفحات الوقائع بتفاصيلها التامة، ذلك لأني كنت عضواً في مجلس المديرين الذي كان يعمل عمل مجلس الوزراء، ووزيراً في الوزارة الأولى التي تألفت إثر الاستقلال، ووزيراً في الوزارة الثانية التي أعقبتها، والتي بقيت في الحكم حتى يوم ميسلون.. زد على ذلك أن الوزارة الأخيرة كانت قد عهدت إليّ بمهمة التفاوض مع الجنرال غورو عقب تقدم جيوشه نحو سفوح ميسلون، فتسنى لي من جرّاء ذلك أن أطّلع على تفاصيل الصفحة الأخيرة من القضية أكثر من أي شخص آخر ».

ساطع الحصري هنا لا يكتب ككاتب، وإنما يكتب كرجل دولة تولى الإدارة والوزارة، وكان فاعلاً ومفوضاً من الدولة العربية التي ينعاها وقد انتهت قبل مرور عامين على تأسيسها، وفي الكتب الدراسية والمقررات ندرس شروط غورو التي أملاها على الدولة العربية والملك فيصل وجميع الكتب والدراسات أخذت هذه المعلومات من ساطع الحصري ومن كتابه «يوم ميسلون» لأنه أراد أن يكون هذا الكتاب حاوياً على الوثائق التي اطلع عليها، ولم يطلع عليها أحد سواه من المؤلفين والكتّاب، ولننظر إلى التفاصيل التي يذكرها الحصري ولم يذكرها سواه:

«كان قد تقرر أن يسافر الملك فيصل إلى أوروبا لعرض القضية السورية على مؤتمر الصلح، وأوفد نوري السعيد، الذي كان من مرافقي الملك عندئذ إلى بيروت ليطلب من الجنرال غورو إعداد وسائل السفر، غير أن الجنرال امتنع عن تلبية الطلب، وأعلمه بأنه أعد إنذاراً رسمياً، وقد ذكر الجنرال غورو لنوري السعيد أهم الشروط التي سيطلبها في هذا الإنذار وهي:

– وضع سكة حديد رياق- حلب تحت تصرف الجيش الفرنسي.

– قبول الانتداب الفرنسي.

– إلغاء التجنيد الإجباري وتسريح المجندين.

– قبول الأوراق النقدية التي أصدرها البنك السوري.

– معاقبة المجرمين الذين استرسلوا في معاداة فرنسا.

وفي هذا الموقف يتجلى رجل الدولة الحصري عندما يحاور رئيس الوزراء ويتحدث إلى يوسف العظمة، ويكتشف الواقع المؤلم للوضع العسكري المتردي، والمناقشات الحكومية، وتعليقات الوزراء الذين تحسبوا لموقفهم في التاريخ، مثل فارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر حول الإنذار ليختمه بمسؤولية رجل الدولة «لم أكترث لملاحظة الأول، ولا لمعارضة الثاني، لأنني شعرت شعوراً صادقاً بأننا قمنا بأداء واجب أليم جداً، ولم أشأ أن أفكر بشيء يتعدى هذا الواجب الأليم أبداً».
وتموت الدولة العربية الوليدة ليذهب فيصل إلى العراق، ويتبعه الحصري لتبدأ رحلته في العراق.
إنه رجل فكر حرٌ.

لم يكن متحزباً بالمعنى الحقيقي.

لم يؤسس لحزب كما فعل آخرون.

ربط حياته بالقومية العربية حتى آخر لحظة من حياته، أعطاها كل ما لديه، قد يكون ممن تعرضوا للخطأ والتغرير في كثير من مراحله، لكن كان مخلصاً لهذه الفكرة السامية، وكان ابناً لمرحلة تميزت بكل التقلبات القاسية.
فهل خاب مسعاه؟

لن تنطفئ جذوة الفكر السامي القومي، وإن اعتراه الوهن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن