ثقافة وفن

رحيل الدبلوماسي والوزير والقاضي عبدالله الخاني «1922-2020» … عمل مع كل الرؤساء من شكري القوتلي إلى حافظ الأسد وكان موضع ثقتهم جميعاً لأمانته وإخلاصه

| إسماعيل مروة

فقدت الساحة السورية اليوم واحداً من شيوخها وأهم فرسانها، وفقدت الوثيقة السورية اليوم ذاكرة حملت أحداث سورية من الاستقلال إلى اليوم، ومن موقع الفاعل والمراقب عن قرب، الأستاذ الدبلوماسي والوزير عبد الله الخاني الرجل الذاكرة من عهد الرئيس شكري القوتلي وإلى اليوم، الرجل الذي لم يتوقف عن العمل من أجل سورية حتى أواخر أيامه، وقد كان إيجابياً على الدوام، ولم يقف موقف المتشنج يوماً، بل كان المحب لسورية ودمشق، وكان العالم الجليل الذي حفظ القانون في صدره، وأتقن الدبلوماسية في كل حركة، وكان وطنياً نبيلاً في كل مراحل حياته.

الدخول إلى المعترك

كان من حسن الحظ أن الأستاذ الخاني خصّ «الوطن» بحديث طويل عن ذكرياته والحياة السياسية والدبلوماسية التي عاشها، وقد ذكر الخاني بنفسه أن والده أوصاه بألا يعمل في الوظيفة «ولكن الرئيس شكري القوتلي اختاره للعمل في مكتب الرئاسة وأقنعه بأن هذا العمل ليس وظيفة، وقد التزم الخاني وألزم نفسه، وهو الذي قال: «لم أشتغل بالسياسة، ولم أتبع أي حزب أو كتلة، وكان انتمائي لسورية» وهذا ما أتاح لعبد الله الخاني أن يبقى مصدر ثقة للرؤساء الذين عمل معهم من شكري القوتلي إلى حافظ الأسد، ويعزو الخاني سبب استمراريته إلى رغبة الرؤساء بسبب علميته وقال: «هم من اعتزموا على الإبقاء علي إلى جانبهم، واعتمدوا علي كأفضل الموظفين الذين يقومون بالأعمال» فالخاني دخل المعترك السياسي من دون أن يكون سياسياً أو متحزباً، وكان يعمل لسورية، ولا يعمل للرؤساء، وقد كان ذلك جلياً في أدائه للمهام التي قام بها، وهذا الموقع الحساس الذي يقول عنه الخاني «وظيفة» أتاح له أن يكون على اطلاع واسع بكل ما يجري، وأن يكون حافظ أسرار المكتب الرئاسي، وسيرته تدل على ذلك، فما من أمر قام به يخالف شرف الوظيفة وسريتها، لأنه لا ميول له، فكان من الطبيعي أن يحافظ عليه الرؤساء المتعاقبون، وأن يوكلوا إليه المهام الصعبة، والتي تحتاج إلى صبر وصدق وسرية… وبقي كذلك رجلاً مؤتمناً في أعقد المهمات والمراسلات مع الرئيس حافظ الأسد، وزيراً ودبلوماسياً، وكبيراً لموظفي الخارجية السورية.

الخاني والأحداث الكبرى

اعتمد الخاني وخبرته ومعرفته اللغوية العميقة بالعربية والفرنسية والإنجليزية في مهام مهمة حتى تلك التي تتعلق بالبيانات ونشرات الأخبار، ومن أولى المهام التي أوكلت للخاني متابعة مباحثات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين، فكان أميناً في هذه المهام، كما شارك في المباحثات السورية الأميركية في عهد الرئيسين نيكسون وكارتر في وفد الجمهورية العربية السورية.

ويذكر الخاني دقائق مرحلة الوحدة ومشاركته إلى جانب الرئيس شكري القوتلي، ومن خلال هذه الصحبة روى الخاني الدقائق الحقيقية لمجريات عملية الوحدة التي لم يكن القوتلي راضياً عنها بهذه الطريقة، لكنه وافق عليها حفاظاً على وحدة السوريين وفكرة الوحدة النبيلة، وتم التوقيع بقلم عبد الله الخاني الذي احتفظ به كل هذه السنوات، وأخبرني أنه قدمه هدية لمركز التوثيق القومي منذ سنوات.
ولعل من أهم المهام التي قام بها الأستاذ عبد الله الخاني:

– كان مبعوثاً للرئيس حافظ الأسد إلى الرئيس أنور السادات ليقول له رسالة الرئيس الأسد: «إننا كما دخلنا الحرب معاً ندخل السلم معاً، وفاوض عن سورية ومصر للانسحاب من أراضي 1967»، وكان للقاء ملابساته التي أرادها السادات للتملص من لقاء مبعوث الرئيس الأسد.

– كان مبعوثاً للرئيس حافظ الأسد إلى الرئيس تيتو، ويذكر الخاني عن هذا اللقاء «كنت معجباً بأن تيتو كان متابعاً للحرب من على طاولة في مكتبه، وكانت عليه خريطة المنطقة وكان يتابع الحرب يوماً بيوم».

– رشحه الرئيس حافظ الأسد ليكون أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، لكن الأمانة ذهبت إلى الشاذلي القليبي».
فعبد الله الخاني كان محط ثقة واهتمام الرؤساء الذين عمل معهم، وليس هناك أهم من أن يكون مبعوثاً للرئيس الأسد قبل زيارة السادات للقدس ، وكذلك ليس هناك أهم من الرئيس تيتو ليكون موفداً إليه.

إضافة إلى قيامه بإلقاء كلمة سورية في الأمم المتحدة، ويوجز الأستاذ الخاني عمله الوظيفي بقوله: «الرئيس حافظ الأسد آخر الرؤساء الذين عملت معهم قبل التقاعد، وكنت أميناً عاماً لوزارة الخارجية».

وزارة السياحة والإنجازات

تولى الأستاذ الخاني وزارة السياحة في حكومة محمود الأيوبي وكان ثاني وزير للسياحة، لكن الوزير السابق لم يداوم لأسباب صحية، لذلك يعد الخاني الوزير الأول للسياحة، وله يعود الفضل بتنفيذ الرؤى التي أرادها الرئيس حافظ الأسد في إطلاق البنية التحتية للسياحة، وعن عمله في وزارة السياحة يقول الخاني: «تم إنشاء خمسة فنادق تحمل تصنيف خمس نجوم، اثنان في دمشق هما المريديان والشيراتون، وواحد في اللاذقية وآخر في حلب، وآخر في تدمر، وافقت عليها وأشرفت على بناء المريديان والشيراتون بشكل كامل، ولكن بالنسبة إلى فنادق تدمر وحلب واللاذقية وضعت تصاميمها كاملة، ولكن لم أشرف على بنائها، كما وضعت خطة للسياحة في سورية، وكانت خطة ممتازة، ولكنها للأسف لم تنفذ، كما وضعنا الأسس القانونية للسياحة في وقت لم يكن في سورية شيء اسمه سياحة، وفي وقت كان كل من لا يمتلك الكفاءة من الموظفين يتم نقلهم إلى وزارة السياحة، وأثناء ممارسة عملي الوزاري وضعت نظاماً كما وضعت كتابين عن سورية، وعقدت نحو خمس وثلاثين اتفاقية مع الدول المجاورة والأوروبية، وحصلت على منح للموظفين للتدرب في سويسرا، إسبانيا، ألمانيا، والدول الاشتراكية» وبعدها عاد للخارجية.

الخاني ومحكمة العدل الدولية

حين فرغ كرسي آسيا في محكمة العدل الدولية تنافست الدول من أجل الحصول على المقعد، لكن الذي فاز به عبد الله الخاني، وصرّح هو بأنه استطاع الحصول عليه بسبب ترشيح الرئيس حافظ الأسد له ودعمه للترشيح لدى عدد كبير من الدول الشقيقة والصديقة، إضافة لما كان يمتلكه الخاني من قدرات فيقول الخاني للتاريخ «كنت سفيراً في الهند، والرئيس حافظ الأسد وحده من رشحني، لأنه عندما علم الاتحاد السوفييتي بوفاة صلاح الطرزي خشوا أن يأتي قاض يميني، وكان صلاح الطرزي يسارياً، فاتصلوا بوزارة الخارجية السورية وقالوا لم يبق إلا أيام قليلة للترشيح ويخشى أن يذهب الكرسي في المحكمة إلى شخص آخر. لم تقصر الدولة، ووزير الخارجية أرسل رسائل إلى وزارات الخارجية العربية كي تقوم بدعمي».
وكان عبد الله الخاني مثالاً للسوري الذي أمضى فترته في محكمة العدل الدولية كاملة دون أن يكون عليه أي ملاحظة، سواء في الأحكام أو في النزاعات بين الدول والتحكيم ولعل أهم ما أوكل إليه هو العمل على تدريب فريق القانونيين في سراييفو بعد حرب دامية بين صربيا والبوسنة، فأنجز مهامه واستطاع التأسيس لقانون جديد أوقف هذه الحرب.
إضافة إلى ذلك كان الخاني عضواً في المحاكم الدولية الرياضية وغيرها.

الخاني وسورية

بعد انتهاء مهام الخاني الدولية وتقاعده الوظيفي أقام في دمشق، ولم يغادرها لفترة طويلة، وهو الذي يقول: «لم تبق قارة لم أزرها سوى القارة المتجمدة وأجمل مدينة في الدنيا دمشق» وحين نشبت الحرب على سورية عام 2011 لم يتردد الخاني رحمه الله في أن يكون عضواً فاعلاً في الحوار الوطني لمحاولة تجنيب سورية ما حدث فيها، لكن المخططات كانت أكبر، ولم تفلح كل محاولات الحوار، وبقي الخاني على موعد مع أصدقائه وأحبابه وخلانه في دمشق، يذهب لرياضة المشي مع أصدقائه أبناء جيله، إلى أن منعه المرض، وجزته سنه عن المشي، فلزم بيته يستقبل أحبابه، ولا يكون استقباله إلا في هيئة رسمية، لأن الاحترام والبروتوكول الذي عاشه في حياته لازمه في حياته الأسرية اليومية.

الخاني والتأليف

الأستاذ عبد الله الخاني واحد من القلة من الذي عاشوا هذه المراحل وقام بتوثيقها، ليس في كتب سيرة واستعراض، وإنما في كتب علمية فيها الكثير من الوفاء لسورية ورجالاتها، فكتب عن الرئيس الذي رافقه طويلاً وأحبه، لأنه أراد أن ينصفه وهو الرئيس شكري القوتلي، وكتب عن سورية وعهودها السياسية، وكتب عن السياحة وسورية السياحية، وله الفضل في سلسلة الكتب التي أصدرتها وزارة السياحة عن السياحة في سورية والمواقع.

وبعد:

عرفت الخاني وأسرته بعد أن صحبت السيد رئيس التحرير لإجراء حوار العمر معه، ورأيت هذه الأسرة المحترمة في تعاملها ورقيها، وأسجل هنا صفات للأستاذ عبد الله الخاني قل أن نجدها في زماننا، فقد حرص على زيارة «الوطن» لأنها كرمته، وعندما زاره للاطمئنان عنه المفتي العام للجمهورية، كان حريصاً على رد الزيارة، وحين كرمته وزارة السياحة بشهادة وأنابني عنه شرفت بصحبة الصديق المهندس الوزير بشر يازجي إلى بيته، وألح الخاني على رد الزيارة في الوزارة، وفي كل مرة لم يمنع العمر الأستاذ الخاني من أن يكون رسمياً في لباسه وربطة عنقه… والأهم في مواعيده، فكان لا يقبل أن تصل قبل دقيقة أو بعد دقيقة، وأذكر قوله لي: سيارات الموكب تمشي بالثانية يا ابني.

اليوم مشت بك سيارات الموكب تتهادى لتودع شيخ الدبلوماسيين، وصديق الدولة السورية، ربما الوحيد، من الاستقلال إلى اليوم، لتودع الرجل الذي لم يمل به الهوى والحب، ولم تغره السياسة والتحزب، لتودع في باب دمشق الصغير رجلاً ينضمّ إلى قافلة الكبار الذين سبقوه، وهم في انتظاره.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن