قضايا وآراء

جولة رابعة على حلبة «اللجنة الدستورية»

| عبد المنعم علي عيسى

تظهر المواقف والتصورات التي تخرج عن المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون بأن هذا الأخير يبدو مدركاً جيداً لأمر وهو يعيره الكثير من الأهمية، فالحركة، وفق تصوره، أياً تكن المعوقات التي تعترضها تجعل من أجهزة نقلها شبه معطوبة، هي في النهاية دلالة على نبض الحياة في الأجساد، أما السكون فأياً تكن المبررات التي قادت إليه هو مؤشر على موات الأشياء، وربما كان هذا الإدراك هو وحده الدافع الأكبر الذي قاده بعد جهد حثيث إلى الإعلان عن بدء الجولة الرابعة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» التي انطلقت أعمالها في جنيف في اليوم الأخير من الشهر المنصرم، واستمرت في انعقادها على امتداد خمسة أيام متواصلة.
عشية بدء تلك الجولة لم تكن هناك الكثير من المؤشرات التي توحي بإمكان حدوث اختراق جوهري يمكن البناء عليه، ومن ثم العمل على إعلاء البنيان وصولاً إلى إنشاء قاعدة يرتقي على أعمدتها سقف متين، فمجمل الرياح الدولية وكذا الإقليمية كانت تشير في اتجاهاتها المتضاربة غالباً إلى أن حدوث ذلك الاتفاق أمر يبدو شبه مستحيل، هذا إذا لم تكن تلك الاتجاهات تشير فعلاً إلى أن مجرد انعقاد تلك الجولة سيراكم المزيد من التعقيدات أقله في اتساع الفجوة الحاصلة في مواقف الأطراف المتحاورة تبعاً لحالة الاستقطاب التي كانت تنبئ بالكثير، حتى ليصح القول إنه كان لافتاً ما جاءت به من خسائر كانت بالتأكيد أقل مما كان متوقعاً لها.
وفقاً لأولويات الحكومة السورية التي تكشفت مؤخراً في محطة انعقاد مؤتمر اللاجئين السوريين في دمشق يومي 11 و12 من شهر تشرين الثاني الماضي، فإن الوفد الوطني عمد إلى المطالبة باعتبار مسألة عودة اللاجئين مبدأ وطنياً، داعياً في الآن ذاته إلى عدم تسييسها، وإلى عدم ممارسة الترهيب الواقع فعلاً على اللاجئين في دول اللجوء لإقناعهم بعدم العودة إلى ديارهم، ليسجل اليوم الأول افتراقاً، كان غير طبيعي قياساً إلى كونه واقعاً بين وفدين سوريين أياً تكن حجم الخلافات فيما بينهم، مع وفد المعارضة السورية الذي اعتبر ملف اللاجئين «إنسانياً» و«قانونياً» غير قابل للتفاوض، والمؤكد هو أن ذلك الخلاف يظهر إصراراً غربياً أميركياً على الإمعان في تمزيق الهوية الوطنية للسوريين التي استطاعت سني الحرب العشرة إلحاق الأذى بالكثير من تفاصيلها، في مواجهة جهود دمشق التي ذهبت إلى محاولة ترميم ما تأذى بفعل تلك الحرب.
من ناحية أخرى أظهرت الاجتماعات الأولى عمق الهوة الحاصل ما بين المواقف، ففي ظل عدم التوافق على الثوابت الوطنية التي كانت مطالب الوفد الوطني ترمي إلى تحقيق الحدود الدنيا منها، مثل رفض الإرهاب والاحتلال، والتمسك بوحدة سورية وسيادتها واستقلالها، قبيل الدخول في أية مناقشات من شأنها أن تفضي إلى تعديلات لمواد الدستور، أو حتى لإنضاج آخر بديل عنه، كان من الطبيعي الذهاب نحو توسعة هامش المطالب التي تحقق فضاءات أوسع للعملية الأولى التي نقصد بها التوافقات في حدودها الدنيا، الأمر الذي يفسر مضامين الوثيقة ذات المبادئ الثمانية التي تقدم بها رئيس الوفد الوطني أحمد الكزبري، والتي كان بها بندان بارزان، أولاهما المساواة ما بين الأعمال الإرهابية بمعناها الشائع، وبين الإرهاب الاقتصادي من حيث أن الفعلين يصبان في بوتقة واحدة، وثانيهما المساواة ما بين تنظيم داعش وبين تنظيم الإخوان المسلمين الذي تضم «هيئة التفاوض العليا» المعارضة ممثلين عنه، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن «الائتلاف السوري المعارض» الذي تمثل جماعة الإخوان المسلمين ركيزته الكبرى وعصبه المحرك في صناعة قراره السياسي، كان قد أصدر في 22 من شهر تشرين الثاني الماضي قراراً بإنشاء «المفوضية العليا للانتخابات» الذي قال في بيانه التوضيحي بعيد إنشائها إن الفعل جاء لتمكين المعارضة من المنافسة في أي انتخابات سورية مستقبلية، ثم لتهيئة الشارع السوري لخوض غمار الاستحقاق الانتخابي عبر نشر الوعي بأهمية المشاركة في الاستحقاقات الوطنية.
مثّل هذا لم يحدث عشية صيف العام 2014 الذي شهد انتخابات رئاسية أيضاً، آنذاك كانت الكلمة الفصل هي للرصاص، أياً تكن السياقات التي سيفضي إليها هذا الأخير، ولم يكن مهماً حينها «نشر الوعي» و«تثقيف الشارع بمسائل الديمقراطية» وما يتصل بهما من تفرعات، هذا التحول على الرغم من أنه يعطي صورة إيجابية في بعض ملامحه، انطلاقاً من رفضه الضمني للعنف كوسيلة للتغيير، إلا أنه في العمق لا يخفي ما يظهره سطح الملامح، لأنه ببساطة لم يأت بنتيجة مراجعات داخلية لها علاقة بالمنهج التي إن حدثت فإنها تفترض إشهاراً بذلك، والأخير يجب أن يتضمن اعترافاً بخطأ الخيارات التي قادت إلى تدمير البلاد على امتداد سني الحرب الدائرة منذ عقد، وإنما جاء على وقع إملاءات خارجية ارتأت أن التدمير الحاصل بات كافياً لإنجاز ما يجب إنجازه، أو أن المزيد منه يمكن أن يفتح الآفاق نحو تصدعات أخطر من الصعب تخمين التداعيات التي يمكن أن تلقي بحمولاتها في المحيط بجهاته الأربع.
هذه التحولات المحكومة بدفع خارجي هي التي قادت في النهاية إلى التفجير الذي حصل قبيل أن تتم الجولة الرابعة أعمالها، إذ لم يكن مسموحاً كما يبدو تعليق أعمالها قبيل أن تسجل المحاضر التي يجب أن تخرج إلى العلن خلافاً من أي نوع كان، وما جرى في اليوم الخامس والأخير في ختام هذه الجولة، كان بالتأكيد تكريساً لحالة عدم السماح سابقة الذكر، وربما كان مرده في بعض دوافعه يعود إلى رسالة أريد لها أن تصل إلى صندوقها المستهدف، ومفادها: إنه، أي ذاك الوفد، لا يزال هو الأفضل لأداء الدور المنوط به، ووفقاً لما جاء في تقرير جريدة «الوطن» الذي نشرته يوم 4 من الجاري، فقد انسحب الوفد الوطني مع ستة أعضاء من المجتمع المدني من تلك الجلسة احتجاجاً على تهجم أحد أعضاء وفد المعارضة، الذي سماه التقرير بالاسم، على الدولة السورية والجيش السوري، بل والمواطن السوري الذي لطالما صم الوفد آذان العالم عبر مطالبه بترسيخ مبدأ المواطنة وتساوي الأفراد في الحقوق والواجبات، وكأن دستور العام 2012، أو الدساتير التي سبقته، فيها ما يوصي بعكس ذلك، ولم يقف الأمر عند تلك الحدود، فقد جاءت رئاسة هادي البحرة رئيس وفد المعارضة للجلسة الختامية كفرصة لتكريس فعل هيثم رحمة سابق الذكر، في محاولة لترسيخ فعل هذا الأخير الذي أراد القول إن فعل السياسة لا يزال معطلاً، ومن الصعب اعتماده كجرافة قادرة على إنضاج تسوية سياسية تضمن للسوريين وطناً حراً مستقلاً قادراً على حفظ عيشهم وكرامتهم وحريتهم.
لم يكن اختيار بيدرسون لموعد مفترض يمكن أن تنعقد فيه الجولة الخامسة المقبلة اعتباطياً، فالتاريخ الذي تحدد مبدئياً في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني المقبل يحمل دلالة لا يخطئها ناظر، فهو سيكون بعد خمسة أيام لوصول مفترض حتى هذه اللحظة للمرشح الديمقراطي جو بايدن، الفائز بانتخابات الرئاسة الأميركية، إلى البيت الأبيض، الذي سيحدث في 20 من هذا الشهر الأخير، وفيه من المفترض أيضاً أن يلقي خطاب التنصيب، الذي سيحمل بالتأكيد خطوط سياساته العريضة التي ستعتمدها إدارته في مواجهة الأزمات الممتدة على سفوح القارات الخمس، وفي الذروة منها العلاقة مع روسيا والصين، وإيران وكوريا الديمقراطية، ولن تكون الأزمة السورية غائبة عن ذلك الخطاب المنتظر، فيما التباشير القائمة حتى الآن توحي بأن إدارة بايدن سوف تنحو أكثر إلى استثمار في العملية السياسية الجارية، لكن مع توسعة رعايتها الدولية في محاولة لإضعاف أدوار دول فاعلة فيها، في مقابل إنعاش أو دعم دول أخرى كبحاً لجماح الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن