لا يشير تاريخ الرجل إلى أنه كان يميل في يوم من الأيام إلى نزع بزته العسكرية التي وإن لم يرتديها طيلة حياته العملية البادئة منذ يفاعته المبكرة منتصف الثمانينات من القرن الماضي، فالبزة إياها كانت حاضرة في ذاته وفكره لا تغيب عنهما، حتى وإن غابت عن الجسد لضرورات اقتضتها تنقلاته التي كان يمارسها بأسماء وهويات مستعارة تبعاً لما تقتضيه حال المكان الذي سيمضي إليه.
ربما كانت حالة التماهي مع البزة العسكرية هنا مستمدة عنده من التصاقه المبكر بزعيم حزب العمال الكردستاني عبد اللـه أوجلان الذي عايشه، كما تقول سيرته الذاتية، لما يقرب من عشر سنوات قبيل أن يستطيع الأتراك اعتقال هذا الأخير وإيداعه سجن إيمرالي في شباط من العام 1999، وربما زاد في الأمر أن تلك المعايشة كانت قد بدأت في لحظة اختار فيها الحزب طريق العمل العسكري عام 1984 سبيلاً إلى قيام «كردستان» التي كان يحلم بها على الأراضي التركية، لكن أيا تكن الأسباب، فإن مظلوم عبدي، الاسم الذي سيصبح اليوم أشهر أسمائه، كان قد اختار العمل العسكري مساراً ومصيراً، بل وسبيلاً إلى «تحصيل الحقوق» من الأتراك الساعين إلى وأد الجنين الكردي النامي آنذاك مرة واحدة وإلى الأبد، ومنذ عام 1996، الذي شهد قيامه بأولى عملياته في شمندلي بولاية هكاري التركية، سيصبح جندياً في ولاية حزب العمال الكردستاني، حيث ستكتسب الحياة فيما بعد صبغة مختلفة، وهي ستحتم عليه البقاء في حال من التنقل والترحال لا ينتهي، وسجل هذا الأخير سيشمل هروبه إلى أوروبا ما بعد اعتقال أوجلان، ثم العودة إلى العراق عام 2003 بعد تباشير الخراب التي تكشفت ما بعد ربيع هذا العام الأخير، حيث سيجد في الخراب مشهداً يسيل اللعاب، بل ويثير شهية الحلم في آن، ليبقى هناك حتى عام 2014، العام الذي شهد صعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية، ليقرر حينها العودة إلى سورية، حيث سيرتبط بزوغ نجمه آنذاك مع بزوغ نجم التنظيم، ولتصبح الحركة عنده متماهية أيضاً، صعوداً وهبوطاً، مع حركة هذا الأخير.
خرج مظلوم عبدي مؤخراً في مقابلة نشرها تلفزيون «روناهي» يوم الجمعة 4 كانون الأول الجاري، وهي احتوت الكثير مما يمكن الوقوف عنده، وفي المجمل فإن الرجل أراد أن يسجل نقطة تحول كبرى تطول حياته الشخصية، لكنها في مقلب آخر تطول أيضاً مشروعه المتماهي هو الآخر مع تلك الحياة، فللمرة الأولى سيكشف مظلوم عبدي عن مقتل أربعة آلاف مقاتل من حزب العمال الكردستاني خلال المعارك في سورية، وإذا ما كان ذلك أمراً مؤكداً بالنسبة للكثيرين، إلا أن الاعتراف فيه يأتي ليقدم مؤشرات على وضعية «نهاية الخدمة» التي يهيئ نفسه للولوج إليها، الأمر الذي أكده بنفسه في مقابلة أجراها أواخر الشهر الماضي مع راديو السويد (إيكوت) التي قال فيها: إنه سوف يتخلى عن بزته العسكرية ليتفرغ للعمل السياسي.
صحيح أن عبدي سبق وأن أشار في مقابلة له أجراها مع «مجموعة الأزمات الدولية» في 25 تشرين الثاني الماضي إلى «وجود شخصيات غير سورية شاركت بالقتال في شمال شرق سورية» إلا أن التصريح الأخير لم يكن بذلك الوضوح الذي جاء عليه في مقابلة تلفزيون «روناهي» سابقة الذكر، والمؤكد هو أنه كلما ازدادت حالة الإفصاح عن الأسرار، كلما كان ذلك دليلاً داعماً لقرب التقاعد الذي يبتعد في مدلولاته هنا عن الحالة الشخصية ليمتد نحو تقاعد المشروع برمته بنتيجة حالة التماهي الحاصلة ما بين الاثنين، وهو أمر يمكن تدعيمه أيضاً عبر تقارير راجت مؤخراً ومفادها أن الأحاديث الدائرة في الكواليس الآن تشي بإمكان تعيين خليفة لعبدي في قيادة «قوات سورية الديمقراطية»، بل وتضيف تلك التقارير أن الخليفة المحتمل له هو محمود برخودان المعروف بمحمود رش.
في جردة حساب التجربة التي قدمها مظلوم عبدي عبر مقابلاته الثلاث سابقة الذكر التي جاءت كلها في غضون لا يزيد عن الأسبوعين، تتضح أكثر حالة الإنكسار التي عبر عنها بقوله في إحداها «الآن بعد انتهاء المعركة العسكرية يشعر الكرد بأن العالم تخلى عنهم»، وربما تتضح أكثر عبر الخلاصة التي أردفها بعد هذا القول الأخير التي جاء فيها «الحرب الإديولوجية ضد داعش هي تحدٍ أكبر» قبيل أن يختم فيقول «وهي تتطلب الوقت والموارد والالتزام» ومن الواضح أن هذا القول الأخير يندرج في سياقات طلب التمديد المرفق أيضاً بأكياس «السيروم» اللازمة لبقاء كيان لا يمتلك مقومات الحياة، إلا أن أهم ما جاء في جردة الحساب سابقة الذكر هو قوله: «إن العلاقات العسكرية مع الأميركيين جيدة جداً، لكن العلاقات السياسية غير كافية، وهي لم تصل إلى المستوى المطلوب».
ولا ندري إذا ما كان عبدي يدرك الإجابة على تلك الإشكالية التي تعتبر مفصلية، لكنه على الأرجح يبدو مدركاً لها، أو أنه أدركها مؤخراً، فكان القرار بالتقاعد الذي يقترب في مؤشراته، منه شخصياً.