ثقافة وفن

«النُكتة» عنصر ثقافي شفوي نشأت وتطورت عبر الزمن

| سوسن صيداوي

النُكتة رفيقة السهرات، ومحل الإصغاء المهتم والمترقب لسماعها، ومُلقيها شخص صاحب موهبة، فهو قادر على استقطاب الحاضرين وتشويقهم، وبمجرد أن يقول: «سمعتم آخر نكتة؟» الكل يصمت ليصغي. ولكن هذه العادة البشرية والمتداولة ليس لها أصل مجتمعيّ تنتمي إليه، ويجوز أن نقول إنها بشرية الأصل، وهويتها الشخص المحب للطرافة والمرح، وعلى الرغم من أن هناك شخصيات حقيقية أو خيالية عُرفت عبر التاريخ البشري بقدرتها العالية على استحضار النِكات، إلا أن أصل النُكتة ولمن تعود هذا موضوع من المستحيل حصره. ولكن موضوعنا اليوم ليس الحديث عن المرجعية بالأصل، بل ما أود التطرق له هو قدرة المزاح والنِكات على التنفيس في وقت الأزمات، إضافة إلى أمور أخرى.

إحماضة المجلس

مازالت الأبحاث قائمة في الجامعات الغربية لإيجاد أصل أقدم نُكتة عند البشر، وربما الأمر شديد التعقيد، لأن النُكتة بسيطة وسريعة الانتشار، وعلى الخصوص في أيامنا هذه التي أصبحت فيها وسائل التواصل الاجتماعي والموبايلات تحتل المساحة الأكبر من اهتماماتنا الحياتيّة، وبحسب الإحصاءات المنتديات والمواقع المتخصصة بطرح النُكتة من المواقع المرغوب فيها والأكثر زيارة.
وبنظرة سريعة نحو الزمن الماضي، كان الأدباء يسمونها «إحماضة المجلس»، وحتى كانت تقال في بلاط الحكام والعظماء، وفي كثير من المناسبات كانت سببا في إنقاذ حياة بعض البشر، لأن النُكتة أضفت على نفس الحاكم أو الملك أو الخليفة السرور والغبطة وأبهجت نفسه ودفعته للضحك.
والأمر معروف لمعظمنا بشيوع كتب الطرائف والنوادر، فمنها كتاب «أخبار الحمقى والمغفلين» لأبي الفرج بن الجوزي، وكتاب «البخلاء» للجاحظ، لكن شخصية «جحا» هي الأكثر ارتباطاً بالنُكتة، حتى والدي رحمه اللـه اشترى العديد من الكتب المختصة بنوادر جحا وأضافها لمكتبته الخاصة، وكان يعلو صوت ضحكه على ما كان يعيشه «جحا» من مواقف، رغم أنني –بالمقابل- في كثير من الأحيان كنت أقول لأبي بأن في شخصية «جحا» الكثير من الغباء والتبّلد بالفكر أو التصرف، لكنّ رأيي لا يمنع من قول الحقيقة، وبأنّ طرافته فيما كان يصادفه من أحداث حياتية مع حماره أو مع الناس المحيطة، هي السبب الذي جعلها خالدة في أجواء الضحك.

النُكتة كاريكاتور شفوي

للنُكتة دور أساس لم ولن يتغير مهما طال الزمن، فهي تقال كي تضفي أجواء الفرح والسعادة بإثارة الضحك خلال الحديث للترويح عن النفس، ولكن كثيراً ما نقول: « شر البلية ما يُضحك» كناية عما يواجهنا من ظروف قاسية وفيها تبلغ المعاناة الكثير، ولكن في أحداثها قد يصادفنا أمر طريف يضحكنا وينسينا الهموم، وبما أن النُكتة هي للترويح عن النفس وللضحك، لطالما جاءت كتصورات كاريكاتورية للواقع، الهدف منها تحطيم للتابوهات أو بمعنى آخر للمحظورات، التي يصعب الحديث عنها.
وما لا يمكن إخفاؤه عبر العصور، بأن النُكتة السياسية مستحبّة بين الشعوب وتلقى الرواج الكبير لأنها المتنفس عما يمرون به من ظروف، لتعبّر عما يحسّوه من مشاعر الإحباط والقهر.
كما لابد من الإشارة إلى أن هناك أنواعاً من النكات تثير جوانب دينية، أو أموراً بعيدة عن العفة المجتمعية وتداولها يعود إلى حريات المجتمعات.

فيها من الأذى والسخرية

في كثير من المجتمعات سواء العربية أم الأجنبية، هناك نوع من النكات يستهدف فئة مجتمعية معينة تعيش في مكان محدد، ففي سورية تكثر النكات التي تستهدف أهل محافظتنا العزيزة حمص، حيث تأتي النكتة: كان في واحد حمصي، جاء اثنان شباب حماصنة. ولكن هنا تجدر الإشارة إلى أن من أن يبتكر هذه النكات هم أولاد المدينة نفسها، فهم يتمتعون بحس فكاهة قوي، وفكر مبدع وخلاق في خلقها لتتناسب مع كل الظروف وكل المناسبات.
بينما مثلاً في مصر تكثر النكات التي تطول الصعايدة في طرائفهم المعيشية، رغم ما يوحي المظهر العام لمجتمعهم السلطوي، إلا أنهم في الحقيقة هم الأكثر مرحاً وحباً للضحك على الخصوص في مصر.
وأخيراً هنا هذا الأمر فيه جانب سلبي كونه يثير استياء البعض بأنهم محض سخرية على الدوام، في حين الأكثرية يستقبلون هذا الأمر برحابة صدر بل يكونون هم من يقول النكات بين الأصدقاء.

في الطبيعة والأسلوب

وأخيراً بقي أن نتطرق إلى طبيعة النُكتة، فهي في مظهرها بسيطة ولكن تعبيرها الباسم فيه مضامين -متنوعة- قوية كونها المعبّر عن آراء كل البشر بغض النظر عن العرق أو الانتماء، فابتكارها فيه الكثير من الذكاء، كما أن أسلوبها اللغوي مرّكب بسلاسة وبساطة، بحيث يمكن للجميع فهمها بل حفظها على الفور ليتم تداولها مباشرة بين الآخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن