قضايا وآراء

قطار الملكيات وصل إلى محطته الأخيرة

عبد المنعم علي عيسى

 

يقول العارفون بالسيد ستيفان دي ميستورا إن هذا الأخير يعمل بجد ولأوقات طويلة ومتواصلة أيضاً، ولعل ذلك قد زاد عن الحدود السابقة ما بعد تكليفه كمبعوث أممي لحل الأزمة السورية مطلع أيلول 2014 خلفاً للسيد الأخضر الإبراهيمي المستقيل 31/8/2014، إلا أن العمل ليس هدفاً بحد ذاته فالهدف هو الوصول عبر ذلك العمل- عبر نيات حسنة- إلى بر الأمان على أن يتخلل ذلك المسار تسمية الأشياء بمسمياتها وهو على رأس عمله لا أن ينتظر إلى أن يحمل لقب «السابق» كما فعل سلفاه اللذان سبقاه.
باستخدام هذا القياس السابق يمكن أن نقول إن ما يعيب أداء المبعوث الأممي هو بطء الحركة ففي الغالب كانت أفكاره أو مقترحاته لا ترى النور إلا والأحداث قد سبقتها على الأرض ولا يخفى أن كل صحيح لا يكون كذلك سوى في مكان وزمان محددين فيما الأمر نفسه يصبح مختلفاً باختلاف ذينك البعدين.
من حق دمشق اليوم أن تنظر بعين الريبة لدعوة دي ميستورا الأخيرة لإجراء مشاورات في جنيف خصوصاً لجهة التوقيت الذي جاءت فيه تلك الدعوة والذي يفهم منه أنها كانت استجابة لضغوط إقليمية ترى أن ذلك التوقيت هو الأنسب انطلاقاً من تحقيق المعارضة السورية المسلحة لبعض «الإنجازات المؤقتة» كما ترى أن طهران اليوم باتت مكبلة اليدين على اعتبار أنها سوف تتجنب القيام بأية أعمال استفزازية تربك مسارها التفاوضي مع الغرب، يضاف إلى ذلك كله أن دي ميستورا كان قد خطا نحو خطوته السابقة دونما تنسيق مع دمشق على غرار ما كان يفعل في السابق.
أعلن السيد دي ميستورا عن مشاورات بدأت 5/5/2015 في جنيف يحضرها أربعون طرفاً سورياً وعشرون طرفاً دولياً وإقليمياً على أن تستمر تلك المشاورات لمدة تتراوح بين 4-6 أسابيع يقوم (دي ميستورا) في نهايتها – كما هو مقرر- بإجراء تقييم سياسي ومن ثم يعمد إلى رفعه إلى الأمين العام للأمم المتحدة قبيل 30/6/2015 (تصريح لدي ميستورا 5/5/2015) يدرك السيد دي ميستورا بأن دعوته إلى تلك المشاورات حتى ولو أفضت إلى جنيف 3 فإنها لا تعدو أن تكون دوراناً في فراغ ما لم ترتبط بأمر هو في غاية الأهمية والذي يتمثل بضرورة لجم المحور السعودي- التركي المستثمر في الدم السوري والعامل على إذكاء النار السورية، وتأجيج أوارها كلما بدا أن تلك النار قد مالت إلى الخبو أو الانطفاء، كما يدرك بأنه غير قادر على فعل شيء من هذا القبيل (لجم المحور السعودي- التركي) إذ لطالما تنطح مجلس الأمن بإصدار العديد من القرارات المهمة في هذا الشأن كان أهمها على الإطلاق القرار 2178 إلا أنها بقيت طي الأدراج ولم تأخذ طريقها إلى التطبيق، الأمر الذي يفهم منه بأن مجلس الأمن ليس هو المكان الذي يمكن التعويل عليه للجم ذلك المحور، ومن الواجب التفتيش على آليات أخرى تكون ضاغطة على كل من الرياض وأنقرة لإجبارهما على التخلي عن تلك السياسات التي تنتهجانها.
من المهم هنا أن نسجل حالة «القلق» الأميركية المتولدة جراء الأحداث التي شهدها الشمال السوري بدءاً من الهجوم على إدلب 25/3/2015 وصولاً إلى الهجوم على جسر الشغور 25/4/2015 على الرغم من أن الموقف الأميركي قد بدا وكأنه يعاني من انقسام بين صناعه ففي حين يرى جون كيري ضرورة دعم «المعارضة السورية» بلا حدود، فإن مستشارة الرئيس الأميركي (سوزان رايس- روب مالي) تريان أن واشنطن يجب أن تبقى بعيدة عن الحريق السوري. على مدار الأيام الأخيرة كان واضحاً التذمر الأميركي من الدور التركي، ولم تنفك واشنطن تجدد رفضها لإقامة منطقة عازلة على الحدود التركية- السورية التي تدعو أنقرة إلى قيامها منذ بدء الصراع ولم تزل، ولربما يضاف اليوم سبب آخر يعزز الرفض الأميركي الذي كان (في السابق) يقوم على أن قيام منطقة عازلة في الشمال السوري سوف يؤدي إلى «تورم» الطاووس التركي، ويخل بالتوازنات الإقليمية القائمة، فيما الأسباب التي أضيفت تتأتى من أن واشنطن باتت ترى اليوم أن هذا الأمر (إقامة منطقة عازلة) سوف لن يكون كافياً لتغيير الأوضاع الميدانية على الأرض، وهو ما يمكن له أن يهز الصورة الأميركية بدرجة كبيرة في المنطقة- والعالم- الأمر الذي سيدفع بها (في حينها) إلى تدخل بري واسع لا تريد التورط به ولا تسعى إليه.
تدرك القيادة السياسية السورية أن استمرار هذا الوضع في الشمال الشرقي من البلاد هو أمر من المستحيل القبول به، وله الكثير من المخاطر والكثير من التداعيات لعل في الذروة منها أنه يمثل إغراء للخارج قد يدفع به نحو التفكير بقيام منطقة عازلة حتى لو لم تكن تحظى بمظلة أميركية خصوصاً إذا ما اندفعت الأمور باتجاه واقع آخر على الأرض يمكن أن يشجع أنقرة على التفكير بإرسال قوات برية بهدف السيطرة على حلب وعندها ستصبح المنطقة العازلة أمراً واقعاً على الأرض من الصعب تغييره في ظل ميزان القوى القائم حالياً.
ترافق السعار السعودي- التركي بحملة إعلامية رخيصة كشفت قنوات جديدة وقد رفعت عنها ثوب «الرصانة» الذي تدعي ارتداءه (كقناة الجديد اللبنانية) كما ترافق بالكشف عن أسلحة نوعية متطورة كصواريخ (لو) بعد استخدام صواريخ (تاو) في مؤشر يوضح أهمية المعركة التي أقدم عليها الطرفان وكأنها الورقة الأخيرة في جعبتيهما، حتى دونما حساب لتداعياتها الممكنة ما دام الأمر في أساسه يقوم على المغامرة.
في النصف الثاني من المشهد تداعى حلفاء دمشق لرفع مستوى الدعم لهذه الأخيرة، حيث لم يستطع أمر التحضير للمواجهة العسكرية الضرورية والملحة في جبهتي إدلب والقلمون أن يمنع أولئك الحلفاء من أن يلحظوا المعركة الدائرة في مكان آخر بعيداً عن الأضواء والمقصود بها المعركة على الليرة السورية، فالتقارير الواردة تشير إلى أن حلفاء دمشق قاموا بوضع 30 مليار دولار كودائع في المصرف السوري المركزي دعماً لليرة السورية، وقد كان لافتاً جداً أن تلك التقارير قد أشارت إلى أن الصين كانت قد قدمت الجزء الأكبر من ذلك الرقم السابق.
وإذا ما عدنا إلى محاولات اجتراح الآليات الكفيلة بلجم المحور السعودي- التركي فإننا يمكن أن نلحظ «نواة» المشروع من ذلك النوع وهو ما تبدت خيوطه الأولى مع اندفاع قبائل (بكيل المر) اليمنية إلى نجران السعودية 6/5/2015 لتذيق آل سعود من الكأس نفسها التي أتخموا السوريين بها على مدار أربعة أعوام ولا يزال الاستثمار فيها قائماً إلى هذه اللحظة، حتى إذا ما تطور المشهد بالاندفاع إلى «جيزان» مما بدا بالتكشف 9/5/2015 عندما سيطر اليمنيون على موقع (إم. بي. سي) في تلك المدينة، وإذا ما كان الهدف المقبل مدينة أبها عاصمة إقليم عسير، عندها يمكن القول إن هناك آلية باتت واضحة المعالم وهي كفيلة بدفع الرياض إلى إعادة حساباتها من جديد، ومع ذلك ومهما أعادت الرياض من حسابات فإن العودة إلى ما قبل 25/3/2015 (بداية العدوان على اليمن) فإن «قطار الملكيات وصل إلى محطته الأخيرة» كما يقول مستشار القائد العام للقوات الإيرانية 10/5/2015.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن