بينَ صراع الإيديولوجيا والصراعٌ على الهوية.. هل مازلنا نثق بالتاريخ؟!
| فرنسا- فراس عزيز ديب
في التجربةِ العملية لإعادةِ بناءِ المجتمعات في الكثيرِ من الدول التي ضربتها الأزمات والحروب، كان هناك استناد واقعي لمقولةِ إنه ليس علينا الخوف من أيّ نقاشٍ حول أي موضوعٍ يتعلق بتوصيف وتحديد المبادئ الأساسية لهذه الدولة، الخوف هو من انقطاعِ هكذا نقاش، لأننا فعلياً بحاجةٍ دائمةٍ لإلقاءِ حجرٍ في المياهِ الراكدة وعلى مختلفِ الصُّعد تحديداً مع الذين يتشاركون ذات الخط في توصيف العدو والصديق.
على هذا الأساس لا يبدو إنها نهايةُ العالم بأن يخرجَ وزيراً في الحكومة السورية ليتحدث عن رأيهِ في أمرٍ ما، وبذات الوقت ليست نهايةَ العالم أن يخرج من ظنّوا أنفسهم معنيين بهذا التصريح فكرياً وإيديولوجياً ليردُّوا بإثباتاتٍ تبدو من وجهةِ نظرهم، لا لبسَ فيها، لكن وللأسف فإنَّ النقاشات شيء والسجالات شيءٌ آخر.
النقاش يجب أن يكون في قاعاتٍ تضمُّ أضلاع النقاش بعيداً عن الاختزال أو الرأي الواحد، والأهم بعيداً عن الأماكن الدينية لأنها أقدس من متاهاتِ السياسة.
أما السجال فهو جدالٌ هدَّام أساسه الضربَ بقناعات الآخرين على مبدأ أن أختزلَ رأيي ببضعِ كلماتٍ وأرحل دونما تفكير بمآلِ هذه الكلمات، وإن كنا بحاجةٍ فعليةٍ للكثير من النقاشات فهل إن الحالَ كذلك في السجالات؟ هل إنَّ قدرَ هذهِ البلاد أن تستفيقَ من انقسامٍ لتنامَ على آخرٍ؟ والنتيجة كما جرت العادة ضياع المواطن بين صراعِ الإيديولوجيات، وهو أساساً ليس لديه نفَسٌ لمزيدٍ من الصراعات!
مِنَ المؤكدِ أننا لا نعيشُ حالةَ الترف الفكري تلك التي تجعلنا نطرحُ خلافاتنا إلى العلن، فما بالك عندما يكون الخلاف المتجدِّد بين ساعٍ لاتحادِ دولٍ عربية أو إسلامية أكثرَ من نصفها بات مطبِّعاً بشكلٍ رسمي مع الكيان الصهيوني وهو يسخر من الذي يريد استعادة قبرص إلى حضن الوطن أو العكس؟ فالهجوم حد السخرية الذي قام بهِ وزير الأوقاف عبد الستار السيِّد على فكرةِ «الأمة السورية» ربما كان من الممكن أن يخرجَ بطريقةٍ أفضل لو بقي في إطار عدم التقليل من الآخرين، تحديداً أنَّ الآخرين الذين نتحدث عنهم ليسوا مجردَ أرقامٍ أو أفكار هذه مقاربة غير موفقة فنحن في دولةٍ يحكمها الدستور والقوانين وقيمة المواطن فيه تأتِي من حمله للجنسية السورية وليس للإيديولوجيا التي ينتمي إليها ما دام مؤمناً بوحدةِ واستقلال بلده.
لكن بذاتِ الوقت لا يبدو الطرف الآخر بوضعٍ أفضل بالذاتِ عندما يقوم بتقزيمِ فكرةِ الانتماء للعروبة أو غيرها من أبجدياتِ الانتماء التي يحملها الطرف الآخر، لدرجةٍ تبدو فيها الأفكار أقرب إلى الانعزالية، تحديداً عندما يصرُّون على فكرةِ اتهام كل من ينطقَ باسم العروبة أو يتفاخر بها بأنه مؤدلج لا يعي حقيقةَ انتمائه، هذا كلام لا معنى له فهناك كثر في مجتمعنا تبدو العروبة بالنسبةِ إليهم كما وصفها الرئيس بشار الأسد أشبهَ بالجامعِ لكل المكونات، لكن بذات الوقت هذه العروبة لا تعنيهم كإيديولوجية يجري استخدامها حزبياً، فالعروبة انتماءٌ سابق لكل الأحزاب السياسية التي تنادي بها، هم تبنوا العروبة أو حاولوا الاستثمار بها في وقتٍ كان يمكن لتجربتهم أن تنجح بمعزلٍ عن أين أخطؤوا؟ وأين أصابوا؟ هم فقط من يقرِّر تلكَ المراجعات، وبمعنى آخر: لا يجب أن يتم التعاطي بسلبيةٍ مع طروحات هذا الذي يدافع عن تلك القومية أو تلك، هذا رأيهُ، لكن الهوية يجب أن تبقى خارج هذه السجالات.
إن الهوية هي الانتماء، لا يستطيع أحد إلغاؤه، لذلكَ كنا ولا نزال نحذِّر من فكرةِ الدمج بين الهوية وبين الآيديولوجية الحزبية، فهنا تصبح الهوية أشبهَ بوجبةٍ دسمة يتقاسمَها السياسيون، وهي أكبر وأنقى من ذلك والإثبات بسيطٌ جداً نختصره بسؤالٍ واحد: كم عدد الذين استشهدوا دفاعاً عن سورية وهم ليسوا مؤدلجين حزبياً لكنهم، وعائلاتهم، يعتزون بهويتهم العروبية؟
إذاً، هو ليس نقاش هو جدال لا طائلَ منه ومضيعة للوقت والأهم إنه جِدالٌ بدا بين أبناءِ الصف الواحد الذين امتزجت دماؤهم في الدفاعِ عن سورية.
بطبيعةِ الحال فإنَّ الدفاعَ عن سورية، كان واجباً التزم بهِ من التزم من أحزابٍ وحتى المستقلون، وهناك من اعتبر نفسهُ ليس معنياً، لكن هذا الدفاع انطلاقاً من فكرةِ الواجب، ولا يمكن في النهاية صرفهُ في اللعبةِ السياسية، وبذات الوقت لا يمكن لأي أحد أن يستثمرَ في كلام أو «زلّة» الوزير للاستثمار في إعادةِ التموضع السياسي وصولاً للاستثمار الشعبي، فالحزب الحاكم يدرك تماماً أن الأغلبية الشعبية التي يتمتع بها لا يمكن المسَّ بها بمعزلٍ عما يتم تسويقه من شعارات بأنها تمثل أغلبية العمال والفلاحين، هذا بات منً الماضي، لكنها واقعياً تتمتع بتلك الأغلبية، مشكلة الأحزاب الأخرى تحديداً تلك التي لم تنضو تحت راية الجبهة الوطنية، إنها التهت ببديهية توجيه أصابع الاتهام لذلك التكتل دون التفكير العقلاني بطريقة اختراقه، ظلوا أسرى شعاراتٍ وأقوال لا تُسمن ولا تغني عن جوع، لدرجةٍ مثلاً نجدُ فيها من يتهم الدولة السورية ببنائِها تحالفاً خفِياً مع من يسمونهم «إسلاميين»، لكن من الواضح أن منتقدي هذا التحالف كانوا ولا زالوا يتعاطون بصورة إلغائية والفكرة بسيطة:
من أنت؟ ومن أنا؟ لنلغي الحالة الدينية الموجودة في المجمتع السوري؟ المشكلة لا تبدو بتلك الحالة بل بالعقول التي تصور من يصلي على أنه «متطرف» أو «إسلامي» بل لنكن أكثرَ واقعية وانفتاحاً ونتساءل: لماذا فشلت تلك الأحزاب الناشئة والقديمة باستمالة تلك الحالة الدينية بدل الوقوف بوجهها ووصفها بأقذعِ الأوصاف؟
في الخلاصة، دعونا نتعود أن هكذا جِدال قد يكون الأول، لكنهُ حُكماً لن يكونَ الأخير، دعونا نتعود طرحِ هكذا مواضيع لكن ما يجب أن نتعود عليهِ أيضاً أن يشرحَ كلَّ فريقٍ لمناصريهِ فرضيةَ أن إلغاءَ الآخر لا يساهم ببناءِ سورية التي نحب، وبذات الوقت إن الإصرار على العودةِ إلى التاريخ ستُبقينا في ظلماتهِ، تحديداً إن البحث في التاريخ فيه من الصور السوداء لأي طرفٍ كان ما تشيب له رؤوس الأطفال، فليسَ هناكَ من دولٍ فاضلة، ولنتذكَّر بأننا في عصرِ التكنولوجيا ولا نتفق على مسارِ أحداثٍ وتصريحاتٍ لم يمضِ عليها ساعات!
ببساطة دعونا من تلك السجالات لا وقتها، الوقت فقط لاستعادة كلمة الرئيس بشار الأسد أمام رجال الدين والدُّعاة في جامع العثمان ففيها ما يكفي من خرائط لبناء سورية التي نحب.