ماذا بعد انتهاء أزمة «كورونا»، العدو الذي هاجم الجميع من دون تفرقة ومن دون اعتبار لحدود أو قانون؟
في المواجهة ثمة وجهتا نظر؛ علاج الأزمات الكبرى مثل وباء «كورونا» لا يصح أن يتم على حساب الديمقراطية والحريات الأساسية، أي يجب ألا تصبح الديمقراطية ضحية الأزمة؛ بالمقابل وجهة النظر الأخرى: مواجهة الأزمات الكبرى مثل «كورونا» تتطلب شيئاً كثيراً من المركزية، واستحداث القوانين والأوامر السيادية والإدارية التي تُمكّن الدولة من التحكم في مسار الأمور ولو قيدت أحياناً الحريات، وعملياً كانت الغلبة للرأي الثاني لأنه سياسة مؤقتة، ينتهي بانتهاء الأزمة.
هل عالم ما بعد الوباء سيكون مختلفاً؟ الكثير من المحللين يرون: استمرار توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وتوترات في العلاقات الأميركية – الروسية وخلافات في العلاقات داخل التحالف الغربي ومحاولات لإصلاح الوكالات الدولية المتخصصة، وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية ومراجعة عدد من التفصيلات المتعلقة بالعولمة، وإدارة أمور الاقتصاد والتجارة العالمية والصناعة، لكن التغيير الأهم بسبب «كورونا» سوف يتعلق بمعدلات الثقة بالاستثمار في مجال الصحة العامة، فوباء «كورونا» هدد السلام والاستقرار الدوليين بشكل واضح، لذلك، فالأوبئة في عصرنا يجب أن تعتبر، رسمياً، تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وكذلك تغير المناخ، والانفجار السكاني، إضافة للإرهاب ودعوات الكراهية والتفرقة بكافة مظاهرها، التي تؤدي إلى تصاعد التوتر في العالم.
هذه المسائل تتطلب تعبئة الرأي العام العالمي والمطالبة بتعديلات على ميثاق الأمم المتحدة وكذلك مناقشة العولمة.
الوباء تسبب في ركود عالمي هائل، حيث إن «نحو 90 مليون شخص يمكن أن يهبط دخلهم هذا العام إلى ما دون عتبة الحرمان الشديد، البالغة 1.9 دولار في اليوم، حسب صندوق النقد الدولي.
يوضح تقرير الاستقرار المالي العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي، أن الهشاشة المالية تتزايد في القطاعات المثقلة من قبل بالديون في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، وكذلك في دول الأسواق الناشئة والنامية.
استفاد الاقتصاد العالمي من الدعم غير العادي من البنوك المركزية والحكومات، وبلغ الدعم المالي 11.7 تريليون دولار، أو بحدود 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، اعتباراً حتى 11 أيلول 2020.
ويبقى السؤال: كيف سيبدو العالم بعد الجائحة؟
سلط الفيروس الضوء على مواطن الخلل على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وشجع الدعوة إلى القيام بتغييرات جذرية على الصعيد الاقتصادي والسلوك الاجتماعي ودور الحكومات مستقبلاً.
هناك أمور عامة تحظى بشبه إجماع؛ عندما يتحد الناس تحدث المعجزات ونحن اليوم على أعتاب قرارات حاسمة. فقد تشجعنا الجائحة على التفكير بقوة إرادتنا مجتمعين. قد تكون الجائحة فرصة لإعادة الروابط المفقودة وإيجاد مجتمعات أكثر تعاوناً وترابطاً. الجهد المشترك للعلماء حول العالم لإيجاد علاج لفيروس كورونا يشير إلى النجاح، كما فتح فيروس كورونا أمامنا الباب ليكون المجتمع الدولي أكثر تعاطفاً وترابطاً لبناء المستقبل.
لا شك أن الأزمة تمثل لوحة تداخلت فيها الألوان والحقائق، فما الدروس المستفادة؟
عندما غزا الوباء أميركا تراخى رئيسها دونالد ترامب في التصدي له، لكن بعد الانتشار القوي وبدء تأثيره في مفاصل الاقتصاد، أنزل الجيش في شوارع نيويورك وتساءلت وقتها: هل بالجيش يواجه فيروس لا يرى بالعين المجردة؟!
الفعل لا يعدو كونه حركة دعائية للانتخابات، فقد أدت الأزمة، إضافة إلى الخسائر البشرية، إلى انحسار وتراجع اقتصادي لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث من المتوقع أن تنتج عن الجائحة خسائر اقتصادية كبرى في الدول النامية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى انخفاض مستوى المعيشة في هذه الدول إلى مستويات أدنى مما هي عليه الآن ولفترة طويلة.
لقد وجّه فيروس كورونا ضربة قاسية ومؤلمة لاقتصاد عالمي منهك وضعيف. إن سياسات الإغلاق للعمل والتباعد الاجتماعي التي تم تبنيها من أجل الحفاظ على الصحة العامة للبشر، شكلت هزات غير مسبوقة للمجتمعات في مختلف أرجاء العالم، إذ نتج عن هذه السياسات انحسار وتراجع لاقتصادات كل من الدول المتقدمة والنامية. فبعض الدول النامية، التي تعتمد على نظم ومؤسسات صحية ضعيفة، والتجارة العالمية لمواردها الأولية، والسياحة، أو التحويلات من مواطنيها الذين يعملون في الخارج تضررت بشكل كبير، وإمكانية حدوث انحسار اقتصادي كبير على المديين المتوسط والبعيد في مثل هذه الدول… ليس فقط إلى ركود عميق بل يتنبأ صندوق النقد الدولي بحدوث عجز كبير في النشاط الاقتصادي مقارنة بالإمكانات في 2022-2023. ومن المتوقع أن يصل العجز العالمي في المالية العامة للحكومات إلى 12.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وفي الاقتصادات المرتفعة الدخل سيصل إلى 14.4 في المئة. ومن المتوقع أن تقفز النسبة العالمية للدَين الحكومي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 83 إلى 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين 2019 و2022، مع ارتفاع النسبة في الدول ذات الدخل المرتفع من 105 إلى 126 في المئة، كما أن انخفاض النمو في الاقتصاد العالمي بما يساوي 5 في المئة ينتج عطالة تزيد على 150 مليون شخص.
أنفقت الدول الغنية نحو 11 تريليون دولار لدعم اقتصاداتها في مواجهة تبعات كورونا، لكن الملاحظ وجود صعوبة في جمع أقل من 100 مليار دولار، أي أقل من واحد في المئة مما أنفق على الدعم لجعل اللقاحات متاحة للجميع بعد انتهاء الجائحة، إذ إن عودة الأمور ترتبط بعوامل أهمها نوعية التعاون الدولي، بدءاً من البيئة والمناخ والأنظمة المالية والتجارة العالمية. وهناك عوامل أخرى مرتبطة على رأسها التوظيف ومستويات الدخل والفقر والحوكمة والنزاهة وأنظمة التعليم ومساراتها.
نأمل أن تسير الصحة والاقتصاد باتجاه استشفاء ينتج نمواً راسخاً، فما سبق يتطلب تعاوناً مثمراً بين الدول.
الأمور بعد «كورونا» لن تكون مثلما كانت قبله، وصياغة المستقبل هي مسؤولية المجتمع الدولي، وليس مسؤولية الدول الكبرى فقط؛ خصوصاً بعدما شهدنا من سوء أدائها في مواجهة الجائحة.
إن الأوضاع الاقتصادية الخطيرة في العالم التي تسبب بها وباء «كورونا»، تتطلب إعادة نظر جادة في النظام الاقتصادي برمته، الذي قادته اتفاقيات «بريتون وودز» عقب الحرب العالمية الثانية.
أخيراً نرى أن السياسة المالية العامة يجب أن تلعب دوراً مركزياً، باعتبار أنها وحدها يمكن أن توفر الدعم المستهدف الضروري. ومن الضروري أن يتحول الاهتمام نحو سياسات نشطة في سوق العمل وإعطاء دفعة كبيرة للاستثمار العام، وهذا يُعزز دور الدولة بالتعاون مع فعاليات المجتمع المدني في مواجهة الأزمات وتداعياتها.