ثقافة وفن

الهجرة والتهجير والاغتراب

إسماعيل مروة :

ها هو عام هجري جديد يدخل حياتنا، يعيد إلينا ذكرى الهجرة، وقصة هجرة المستضعفين بحثاً عن أمان لأنفسهم وأسرهم وآرائهم، وفي كل عام يرافق مجيء الهجرة العرض لفيلم الرسالة للراحل مصطفى العقاد، وعدد من التمثيليات التي تتعلق بسيرة الإسلام في بدايته، ودوماً تمرّ الذكرى باحتفالات من دون أن يبقى في الذاكرة حقيقة درس الهجرة، فالهجرة كانت طوعية، وبحثاً عن سلم وأمان، سواء كانت الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة المنورة، فعندما اصطدمت العقيدة الجديدة بالعقائد الموجودة اختارت الهجرة للنجاة بالعقيدة الجديدة وناسها الذين شكلوا جوهرها الأول، هاجروا طوعاً بحثاً عن سلم وأمان، لم يشهروا سلاحاً، ولم يسرقوا أوطانهم، ولم يعتدوا على شيء في أرضهم أو في الأرض التي قصدوها، في الأرض التي نزلوا بها عدوا أنفسهم ضيوفاً، واستأذنوا في كل شيء، وتعاونوا معهم على الحياة الجديدة، فأعطوا المدينة سمة تجارية وحضارية، وأخرجوها من الحرب والاحقاد والضغائن، لتبدأ فيها مع المهاجرين حياة تقوم على التكافل والتجارة والحضارة والمدنية، وحين يأتي موعد الهجرة علينا أن نستذكر الدروس الحقيقية، وألا نكتفي بالمظهر من الهجرة، إذ لم يشكل المهاجرون عبئاً على المجتمع المدني الذي قصدوه، وكان قول الصحابي: دلوني على السوق، ليبدأ تجارة، هذه التجارة التي غيرت حياته، وغيرت حياة أخيه الجديد في المدينة، لم يقاسمه ماله وبيته، بل عمل على تثمير ما لديه، وابن المدينة لم يضق ذرعاً بالمهاجر، ولم يتأفف منه، ولم يسكنه خارج المدينة، ولم يقم له المخيمات، ولم يتسول عليه، ولم يتاجر به وبنسائه وأطفاله، ولم تسمع عن حادثة فيها اعتداء على شخص أو أرض أو عرض.
منذ سنوات ونحن نستقبل عيد الهجرة، وسورية تعاني هذا الجذر اللغوي (هجر) وكثير من محدودي الأفق عقدوا مقارنات بين ما يحصل في سورية والهجرة، وبعضهم استعان بالحديث غير المناسب للحالة (من كانت هجرته)، وصب بعضهم جام غضبه على الناس في زماننا! إن ما يحصل في سورية اليوم ليس هجرة طوعية، وليس هجرة عقدية، وإنما هو تهجير، وثمة فرق واسع بين الهجرة أو التهجير، فقد تعرضت سورية لهذه الحالة من قبل، فقد هاجر السوريون قبل قرن من الزمن، وهجروا، هربوا بأنفسهم من الظلام التركي، وغادروا في ظلمات البحر إلى مناطق مجهولة، وكان ما يسمى بلاد المهجر للعرب، وفي سورية غادر أكثر أهل القلمون حينذاك وقصدوا أميركا الشمالية، ومن مختلف العقائد والمذاهب، واليوم نحن نتحدث عن المهاجرين بفخر، ونتواصل معهم، ونخطب ودّهم، ونحترم ما أنجزوه في البلدان التي قصدوها، وعقدنا اتفاقات استثمارية مع القادرين منهم، وباهينا بمن تفوق منهم ووصل إلى مواقع سياسية وصلت حدّ الرئاسة، والنشاط الوزاري والبرلماني، ولكن هل عاد أحدنا إلى حياة هؤلاء الأولى، إلى حياة أجدادهم الذين هاجروا؟!
اليوم نراهم في أماكن مهمة، فهل عدنا إلى رحلة الهجرة التي قاموا بها؟ كم منهم مات جوعاً؟ كم منهم غرق في مياه الأطلسي؟ كم منهم عاش حياته متسولاً؟ أما أخبرنا أدب المهجر بصورة مؤلمة لمن لا يملك ثمن تذكرة العودة؟ إن المآسي التي تعرض لها السوريون عندما هاجروا من الظلم التركي تصل حدّ الأهوال الصعبة التخيل، لكننا لم نوثقها واليوم نفاخر بمجتمع عربي وسوري، وصرنا نباهي بالملايين من السوريين الذين يشكلون أكثرية في بلدان أميركا اللاتينية..! اليوم يخضع السوريون إلى موجة جديدة من التهجير القسري الذي يقتلعهم من جذورهم، وما من أحد- من دون استثناء- يخرج من أرضه ويركب البحر بإرادته، إنه مهجّر لا مهاجر!! اليوم نبكيهم ونعدّ الضحايا منهم، والآخر يحدثنا عن الحياة الرغيدة للمهجرين الذين يراهم مهاجرين، لإغراء من بقي في المغادرة والهجرة!
ستقوم المجتمعات التي استقبلتهم بتصفيتهم كما حصل في المهجر الأميركي، ونقل الأدب تلك الصورة، فالمتسول يبقى حتى يغادر، والمهني المتواضع تطحنه آلات الصناعة، ويبقى المتميز ليبني نواة مجتمع سوري في تلك البلاد! لن يعود هؤلاء لأنهم هجّروا بمنهجية مدروسة، وبعد عقود سنجد مجتمعاً نباهي به ونتواصل معه، وقد نطلب عونه وخبرته، وسينسى الجميع كل الذين غرقوا وأهينوا وتمت المتاجرة بأجسادهم وأعضائهم وعضلاتهم، ستغيب الصورة، ولكننا لن نتنبه أن هؤلاء النخبة الذين نطلب استثماراتهم تعلموا في سورية، وحصّلوا علمهم في سورية، وعندما حان وقت بناء مجتمع سوري تم تهجيرهم المنهجي مع غيرهم، ذهبت الطاقات المتواضعة وذابت، وبقيت النخبة لتبني مجتمعاً في تلك البلدان، وهذا المجتمع كانت سورية به أولى، فلنتخيل المجتمع الراقي الذي بناه السوريون في أميركا، وهذا المجتمع الجديد الذي سيبنونه في أوروبا، ولو كان هذان المجتمعان في سورية، فإلى أي مرتبة سيصل المجتمع؟ أين ستكون سورية حضارة وثقافة وعلماً؟ لا يعني سورية الخارج الموتور الذي يبث سمومه الفيسبوكية، سيذهب ولا يقرؤه أحد، لا يعني سورية حاقد ومذهبي وطائفي، فهذا ينتهي بانتهاء صلاحيته، ولن يجد لنفسه مكاناً في المجتمع السوري القادم هناك، لأن هذا المجتمع سيكون راقياً وحضارياً، ينتهي لأن دوره في التهجير الممنهج انتهى، وقد حقق الغرض من وجوده إلى أي جانب انتمى؟!
الأجدر أن تكون الهجرة إلى الوطن، وأن يتم التجذر، وأن نتحدى التهجير الممنهج الذي تخضع له سورية، وليلاحظ جميعنا أن هذه الهجرة الجماعية الممنهجة لم تتكرر كل مئة سنة إلا لسورية وطاقاتها..!
لست ضد الاغتراب، والعرب قالت «فاغترب تتجدد» لكن الغربة قد تكون طوعية لاكتساب علم وشهادات والعودة إلى الوطن لبنائه، وليس هجرة للشهادات والخبرات إلى الخارج! والغربة قد تكون لكسب عيش ومال يعود على الوطن بالخير لبنائه، وليس سرقة الوطن وأمواله وكنوزه لإيداعها في الخارج!
سورية تنزف ونحن نتفذلك ونعلك الهواء، فهذا يخوّن كل مهجّر وذاك يحث المقيم على المغادرة! وذاك يقول من شاء فليرحل! وآخر يقول يتم تفريغ سورية! كل هذا الكلام فارغ، وسورية وحدها تنزف دمعاً وينزح دمعها على من أنجبت وربت وعلمت.. فهل هاجر هؤلاء في ذكرى الهجرة أم هجروا؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن