حدود الدم
حسن م. يوسف :
لم تكن زلة لسان عندما قال جورج بوش في حديقة البيت الأبيض: «هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب سوف تستغرق وقتاً، وعلى الشعب الأميركي أن يكون صبوراً». صحيح أن بوش قد استحق عن جدارة لقب «أغبى رئيس في تاريخ أميركا»، لكنه كان يدار من مجموعة من الأذكياء الأشرار، ولم يكن يقول للإعلام إلا ما يُضخ في رأسه الفارغ.
قبل عشرة أعوام أفصحت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، لجريدة واشنطن بوست الأميركية، أن الولايات المتحدة تنوي «نشر الديمقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ«الشرق الأوسط الجديد» عبر «الفوضى الخلاقة». وأنا على ثقة تامة أن استخدام رايس لمصطلح «الفوضى الخلاقة» الذي ينتسب لأدبيات الماسونية العالمية وبروتوكلات حكماء صهيون لم يكن زلة لسان، لأن رايس كانت من أذكى الأشرار الذين حكموا أميركا خلال نصف القرن الماضي. والحقيقة أن قصة «الفوضى الخلاقة» التي تعيش منطقتنا فصولها الدامية لم تبدأ مع رايس، ففي عام 1983 تقدم المستشرق الصهيوني برنارد لويس بمشروع للكونغرس الأميركي، وافق عليه بالإجماع، أطلق عليه Blood Borders»» أي حدود الدم ويقوم هذا المشروع على إثارة النزاعات المذهبية والطائفية في الدول العربية والإسلامية لإعادة تقسيمها على هذا الأساس.
ولو شئنا أن نتعمق أكثر لوجدنا أن الجذور الفكرية «للفوضى الخلاقة» يمكن العثور عليها في كتاب «الأمير» لنيقولا ميكافيلي (1469-1527) إذ جاء فيه أن «النظام ينشأ من الفوضى وأن الفوضى تحدث الخراب الذي يقام على أنقاضه النظام» غير أن الفوضى التي يتحدث عنها ميكافيلي طبيعية وغير متعمدة على العكس من «الفوضى الخلاقة» الأميركية التي تصنع الفوضى بشكل متعمد بغية الوصول إلى «نظام» يتبع لها ويخدم مصالحها!
وقد تحدث عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شامبيتر في كتابه «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» الذي أصدره عام 1942 عن «التدمير الخلاق» إذ ارتأى من وجهة نظره الرأسمالية أن «إزاحة القديم هي التي تفرز الجديد».
غير أن مصطلح «الفوضى الخلاقة» لم يأخذ كامل أبعاده الراهنة إلا على يد البروفسور توماس بارنيت الذي يعتبر من أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأميركية إذ قسّم العالم إلى دول المركز، أي أميركا وحلفاؤها، وأطلق على البقية دول «الفجوة» أو «الثقب» وشبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهراً قبل أحداث الحادي عشر من أيلول. وقد وضع بارنيت تصوراً تطبيقياً لآلية عمل الفوضى الخلاقة، يبدأ بـ«تفكيك المنظومة المستهدفة ما يسهل الولوج إلى مكوناتها الأساسية، ما يؤدي إلى انهيار كلي للنظام… حيث يصبح من الممكن لأميركا أن تعيد تشكيله»… «وخلق هوية جديدة له بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة»…
ولا يكف الأميركان عن تجميل ما ستخلقه فوضاهم في العالم فهم يزعمون أن حالة «الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف تؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية». وهم يشبهون فوضاهم بالعلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد. لكن الهدف المضمر للفوضى الأميركية الخلاقة هو إعادة من لا يدخل إلى بيت الطاعة الأميركي إلى العصر الحجري كما قال سيئ الذكر جورج بوش الابن.
إن نظرة سريعة إلى عالمنا العربي تكفي لأن نرى أن الفوضى الأميركية الهدامة كادت تنجح في نخر أركاننا وزلزلة كياننا، لولا بطولة الجندي العربي السوري ابن الشمس. وقد صدقت نبوءة الكاتب الألماني إرنست جاخ عندما كتب في عدد 22 كانون الأول 1916 من مجلة «دويتشه بوليتيك» قائلاً: «إن الحرب تأتي من الشرق، والحرب ستندلع بسبب الشرق، وتحسم في الشرق».