قضايا وآراء

حراك عربي بدافع القلق يستولد المزيد

| عبد المنعم علي عيسى

أظهر ملف التسوية السياسية للأزمة السورية، فصلاً، شكل مسار أستانا بوصلته على امتداد عامين كاملين قبيل أن يتعثر ذلك المسار خريف العام المنصرم على وقع التناقض الحاصل بين أطرافه الثلاثة في ملفات إقليمية عديدة، الأمر الذي دفع بعودة الأطراف الفاعلة فيه إلى خيار جنيف الذي تحاول واشنطن أن تلعب دور الممسك بملفاته عبر أدوات عديدة مثل «المجموعة المصغرة» التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية كلاً من بريطانيا وفرنسا وألمانيا ومصر والسعودية والأردن، وكذا عبر الضغوط الاقتصادية التي يشكل «قانون قيصر» عصبها المحرك الذي كانت طبعته الأولى قد خرجت إلى العلن شهر حزيران المنصرم، قبيل أن تظهر لاحقا أربع طبعات منه، كان كل منها يصب في اتجاه محدد، مع وجود مؤشرات تقود إلى إمكان أن يزداد عديد تلك الطبعات تبعا للافتراقات التي سجلتها الجولة الرابعة لـ«اللجنة الدستورية» التي انتهت قبيل أيام، وإن كانت هذي الأخيرة قد سجلت توافقاً مبدئياً على انعقاد أخرى لاحقة لها في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني المقبل، في موعد لا يخفي انتظار اللاعبين لخطاب التنصيب الذي سيلقيه الرئيس الأميركي الجديد قبيل خمسة أيام من هذا التاريخ الأخير.

نقول أظهر ملف التسوية السياسية فصلاً جديداً من المقدر له أن يضفي المزيد من التعقيد على المشهد الأساسي الذي لا ينقصه المزيد من ذلك الفعل، فقد حملت الأيام الماضية جنين حراك عربي تقول أطرافه الأربعة الفاعلة، السعودية والأردن ومصر والإمارات، إن دوافعه تنبع من قلق تلك الأطراف المتزايد تجاه تنامي النفوذ التركي، مع ذكر لنظير له إيراني أيضاً عند الأولى والثانية، داخل الجغرافيا السورية، الأمر الذي سينجم عنه بالتأكيد، وفق رؤيا تلك الأطراف، تزايد لثقلها في التسوية السياسية التي لا تزال تراوح على وقع ربط الملف السوري بالعديد من الملفات الإقليمية بدءاً من ليبيا، ومروراً بملف النفط والغاز شرق المتوسط وبحر إيجة، ثم وصولاً إلى الصراع الدائر في إقليم ناغورني قره باغ، الذي لا يشكل اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين باكو ويريفان بوساطة روسية سوى إخماد مؤقت للنار التي ستندلع لاحقاً، طال الوقت أم قصر، تبعا للمتغيرات في موازين القوى الدولية والإقليمية الحاكمة لذلك الصراع، ما دامت المعالجة لم تلامس مكامن التفجير في صراع ذي أبعاد عرقية ومذهبية تمتد جذوره الحديثة إلى بضعة عقود.

وفق المعلن في هذا التحرك العربي السابق الذكر، فإن بعض المرامي التي يحاول الذهاب إليها تبدو إيجابية، أقله في محاولة كبح الجماح التركي المتحفز مؤخراً لعمل عسكري قد يستهدف المنطقة الممتدة ما بين عين عيسى بريف الرقة وبين الدرباسية بريف الحسكة الشمالي لوأد التواصل ما بين جغرافيا المناطق التي تقع تحت سيطرة «الإدارة الذاتية» التي ظهرت مدينة عين عيسى مؤخراً وكأنها أشبه ما تكون بـ«العاصمة السياسية» لهذي الأخيرة، ففيها كانت تعقد أهم الاجتماعات مع ضباط «التحالف الدولي»، وفي «مضافاتها» كانت تجري عمليات شراء الذمم التي كان جل جمهورها يبني قناعاته على وجوب التعامل مع سلطات الأمر الواقع حيث العكس ضار بمصالح هؤلاء، لكن بالتأكيد لا يمكن النظر إلى عملية الربط التي يجريها ذلك «الحراك» بين الوجودين التركي والإيراني في رزمة واحدة على أنه إيجابي، أو أنه من النوع الخادم في صوغ إستراتيجية تهدف «للحفاظ على أمن سورية ووحدتها وسيادتها واستقلالها» وفقاً لما أعلنه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي قبل أيام، فتركيا اليوم تسيطر إما بشكل مباشر، وإما عبر فصائل موالية لها، على مساحة تقرب من 10 بالمئة من الجغرافيا السورية، بل هي الآن في وضعية المتحفز لتوسعة تلك السيطرة، على حين أن الوجود الإيراني في سورية لم يتخذ طابعاً شبيهاً بهذا الأخير، ثم إن ذلك الوجود لا يعدو كونه إسنادياً للعمليات التي يقوم بها الجيش السوري لبسط سيطرته على كامل التراب السوري التي ينادي هؤلاء بوحدتها تحت راية الحكومة السورية.

من بين الآليات المقترحة التي يدور النقاش حولها راهناً في أروقة صناعة القرار الخاصة بدول الرباعية العربية السابقة الذكر، يجري الحديث حول دعم تكتل جديد معارض يشكل ثقلاً وازناً في مواجهة «الائتلاف السوري المعارض» و«هيئة التفاوض العليا» اللتين اكتشف هؤلاء مؤخراً تبعيتهما المطلقة لأنقرة، لكن عدم الذهاب نحو نزع «الشرعية» عن ذينك الكيانين، أو أقله المطالبة بذلك لدى من يدير الدفة، يطرح العديد من إشارات الاستفهام، خصوصاً أن تلك الأطراف لم تثبت استقلاليتها في قراراتها التي تنتهجها تجاه الأزمة السورية على مدار سني تلك الأزمة العشر، ولربما يكفي هنا أن نورد مثالاً لا يزال طازجاً عندما قاطعت تلك الدول مؤتمر اللاجئين السوريين المنعقد في دمشق يومي 11 و12 من شهر تشرين الثاني الماضي، فالمؤكد أن قرار المقاطعة كان قد صدر في اجتماع «اللجنة المصغرة» المنعقد قبل أسبوعين من هذا التاريخ الأخير، بل يمكن الجزم أن أول موجبات ذلك الاجتماع كان في وجوب توزيع «ورقة العمل الأميركية» على الحاضرين، وضرورة الالتزام بها حسبما وردت في تلك الورقة التي تضمنت بنوداً عدة كان أبرزها ضرورة بقاء العزلة السورية قيد التطبيق، وربط ملف الإعمار بتحقيق تقدم في العملية السياسية وفق المنظور الأميركي، والأخطر هو دعم الضربات الإسرائيلية ضد مواقع في سورية تقول تل أبيب إنها لمواقع إيرانية، ثم زيارة المبعوث الأميركي جويل روبرن الأخيرة لكل من أنقرة والقاهرة التي هدفت هي الأخرى إلى كبح جماح النزوع العربي نحو دمشق لإعادة علاقاتهم معها، وللمحافظة على خطوط التماس الحالية، الأمر الذي تهدف من خلاله واشنطن إلى حرمان دمشق من ترجمة انتصاراتها العسكرية لنظيرة سياسية لها، إذ إن أي انتصار عسكري، أياً يكن حجمه، يبقى ذا أثر محدود ما لم يتم تحويله في السياسة إلى مكاسب ملموسة، في التحليل هذا يعني أن واشنطن تريد أن تبقي دمشق في مدارات «الدوامة» التي شكلت محطات حلب 2016 والجنوب ومعه الغوطة 2018 مداخل للخروج منها، ما لم تغير هذي الأخيرة من سلوكها، وبمعنى آخر ما لم تذهب دمشق إلى تقديم تنازلات جيوسياسية هي في جزء منها ستكون شديدة الخطورة على الكيان السوري، بل مكمن تفجير لاحق في بنيانه، وقد يكون هذا الأمر من البديهيات المعروفة في السياسات التي تعتمدها واشنطن لحل الأزمة السورية، وهو على كل حال معلن وليس مستتراً، لكن ما يهمنا هنا هو أن الحراك العربي الأخير وفق تراسيمه التي ظهر عليها حتى الآن، لا يعدو أن يكون سوى ظل باهت لتلك السياسات الأميركية، والغريب فيه هو أن ذلك الحراك يبدو غير مدرك للعديد من الوقائع التي تؤكد أن ممارسة ذلك الدور سوف تكون له تداعياته الخطرة بالدرجة الأولى على تلك الدول، أقله على المدى المتوسط، ومن المؤكد أن لا مصلحة لهذي الأخيرة، ولا لشعوبها، في حصول تسوية سياسية للأزمة السورية وفق هذا المنظور، ولعل أول الدروس المستخلصة من الأزمة السورية هو أنها أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الجغرافيا السورية شكلت، ولسوف تظل تشكل، نقطة التوازن الإقليمية الأهم في المنطقة، وعليه فإن بذرة التفجير التي يحملها المشروع الأميركي، ستكون قادرة على الدوام للقيام بممارسة فعل تصدير الحرائق للجوار، وإذا ما استطاعت «إطفائية» واشنطن في الأزمة الراهنة منع ذلك الفعل من الوصول إلى الأردن وصولاً إلى شبه الجزيرة العربية لاعتبارات تتعلق بالمصالح، فإن وضع هذي الأخيرة قد لا يكون كذلك عند ما يحين موعد اندلاع النار من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن