ثقافة وفن

في قضايا الثقافة.. في عمق الفكرة والسياسة

| إسماعيل مروة

تفرض قوانين العنونة أحياناً بعض الشروط التي تظلم الأفكار المطروحة، فقد تتجاوز هذه الأفكار الحدود التي يمكن أن يستوعبها عنوان محدد، مهما برع الكاتب في اختيار المناسب أو الأكثر مناسبة، وهذا ما كان من أمر كتاب (في قضايا الثقافة) للأستاذ الدكتور وهب رومية والصادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب، ضمن سلسلة (آفاق ثقافية) بعد عودة السلسلة للصدور مجدداً، وربما كان الكتاب في طبعته الأولى من آخر الكتب التي صدرت قبل توقفها، أعود إلى الكتاب، وظاهرة العنونة، لأنها مشكلة حقيقية، استطاع المؤلف الجليل التخلص منها بإطلاق كلمة الثقافة وعدم تخصيصها، ومع ذلك فإنني بعد قراءة الكتاب رأيت أن العنوان قد يظلم هذا الكتاب الذي كان عميقاً في طروحاته، عالياً في لغته، سياسياً في مناقشته، وجودياً في تشريحه للأنا العربي، وهو كتاب يستحق أن يقرأ، وأن يتم تدريسه ودراسته، من أعلى الطبقات السياسية والفكرية، وإلى الجيل الناشئ، لما فيه من عمق، وعلمية، وبعد عن الإنشائية والذاتية والعاطفية وكل ذلك لأسباب كثيرة سآتي على بعضها.

المؤلف ومكانته

د. رومية أستاذ أكاديمي وباحث وناقد في الأدب القديم، ولكنه لم يكن في يوم محصوراً في الأدب القديم، ولا في مكان محدد، فهو أستاذ تنقل بين الدول لتقديم خبرته، وكان متفاعلاً وفاعلاً في كل مكان حلّ فيه، وهو من القلة الذين استطاعوا المزاوجة بين الأدب القديم ونظرياته، والنظريات النقدية الحديثة بسبب اطلاعه وقراءاته وتقبله للآراء التي يتم طرحها للنقاش من يوسف خليف إلى عز الدين إبراهيم، والسبب الرئيسي أن د. رومية متمكن وأستاذ في اختصاصه، وهذا ما أعطاه ثقة في الاختصاص والعصر وسمح له بأن يربطه بغيره من العصور، وبالتالي أن يرى الأدب والثقافة على امتداد العصور كلاً متكاملاً، وقد ظهر ذلك في دراساته الأدبية والشعرية من امرئ القيس إلى أمل دنقل، وهذا أمر يفتقده الكثيرون، فالقديم لا يحترم الحديث، والحديث يرى القديم مستحاثة، ود. رومية يحترم القديم والحديث ومتمكن منهما لذلك نجد الأدب عنده سلسلة متصلة، والثقافة شمولية، ومن هنا تأتي أهمية دراسته للقضايا الثقافية التي لا تخضع للحدية والقوقعة.

عمق القضايا المطروحة

يطرح الكتاب مجموعة من القضايا العميقة، وإن حملت عنواناً غير معبّر عنها (قضايا الثقافة العامة) وشملت: الأنا والآخر، العولمة والعرب، العولمة والثقافة، الحوار بين الواقع والضرورة، ومن ثم انطلق إلى محاور عميقة أخرى: اللغة والثقافة في المكوّن العروبي، اللغة والفكر، اللغة والثقافة، اللغة والهوية، مفهوم الثقافة، خصائص الثقافة، علاقة الثقافة بالحضارة، ولعلّ بحثه (من نحن؟) الموجه إلى من يهمه الأمر هو الأكثر جدلاً وأهمية، فتطرق إلى مفهوم الهوية في خطاب المفكرين العرب من مطلع عصر النهضة وإلى يومنا الحاضر، وعرض لأهم الاتجاهات.
الاتجاه الإسلامي، الاتجاه العلماني، الاتجاه العروبي، الاتجاه الإقليمي الوطني، ورصد هذه الاتجاهات في مراحلها المتعددة، وفي تحديده للاتجاهات نلمس العلمية، فهو لم يدمج بين اتجاهين.
فلم يجمع بين العروبي والإسلامي، ولا بين العروبي والوطني، ولم يفتح كوّة إجبارية للتصالح ما بين العلمانية والإيمان الديني، لأنه أراد أن يبحث في القضايا بعمق، وأن يبتعد عن فكرة التلفيق ما بين الاتجاهات، لأن أسهل ما يمكن للباحث، أي باحث، أن يحقق التلفيق والتصالح بين الاتجاهات المتناقضة، لكنه بذلك يترك الجرح والمرض ليستفحل ذات لحظة.. أما الدكتور رومية، فقد كان علمياً، وخاصة في مناقشته للآراء التي لن أقتبس منها كثيراً حتى لا أثقل هذه القراءة، وفي اختياراته وتقسيماته رفض تام وواضح للمحاولات التوفيقية التلفيقية بين الاتجاهات المتعددة، والتي يسعى إليها أصحاب المصالح استرضاء لشرائح مستهدفة من الجمهور البسيط الذي يستقبل الكلام كما هو دون نقاش. ومن ضمن القضايا الجانب الأدبي في الثقافة العربية، وهو بذلك يشير إلى أن المعضلة الفكرية وضياع الهوية كان له التأثير الكبير على ضياع الهوية الأدبية والنقدية، لذلك خصّ الأدب والنقد ببحثين مطولين لمعالجة الوضع الأدبي، ومن ثم الوضع النقدي، والخروج من الوهم والحلم إلى أرض الواقع، والخروج من الانغلاق على الذات إلى الآفاق التطبيقية التي تجدي في معالجة النصوص، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الواقع الأدبي والواقع النقدي في حالة أزمة امتدت إليهما من الأزمة الفكرية في البحث عن هوية، وخاصة أن النص الأدبي هو تعبير عن الذات والهوية، لذلك كانت مجمل النصوص والمحاور التي بدأ بها قضاياه فكرية وسياسية وعالمية، ليدخل في وسائل التعبير ونقدها وسبل الارتقاء بها.

خصوصية الطرح وعمقه

في وقفة خاصة مع د. رومية في إحدى الندوات التي تتحدث عن صراع الحضارات وحوار الحضارات، قال: أهم من أن نتحدث في صراع الحضارات وحوارها، أن نتحدث في حوار أطراف حضارتنا مع بعضهم، وصراعها فيما بينها، وتابع: إن الصراعات بين أطراف حضارتنا والحروب أكبر بكثير مما حدث من صراع مع الحضارات الأخرى راقت لي هذه الفكرة، ورأيتها صحيحة، فإذا ما عالجنا أنفسنا أولاً، وتخلصنا من أمراضنا، فإنه يمكن أن نصل إلى نتيجة جيدة تجعلنا قادرين على مواجهة الآخر بندية لا باستجداء! وحين قرأت الكتاب وجدت هذه الفكرة تلخص الجزء الأول من الكتاب، والأكثر أهمية أن الدكتور رومية لم يجمع المصادر ليكتب، وإنما كانت مجمل الآراء مما سمعه وحضره في مؤتمرات دعي إليها.. «إن أول ما يجب عليها أن تفعله- من وجهة نظري، هو أن تكتشف ذاتها عبر هذا الركام التاريخي الهائل، وفي وسط هذه الضوضاء العالمية التي تصمّ الآذان، وحين تكتشف ذاتها تستطيع أن تضع لها إستراتيجية تصونها وتنميها وتطورها، وتستطيع في الوقت عينه أن تحدد الآخر وتحدد طبيعة علاقتها به سلباً أو إيجاباً على وفق تحدياتها له، لأن هذا الآخر ليس واحداً بل هو متعدد تاريخياً وجغرافياً».
ومن الطريف تعليقه على ما كان في ندوة قرطبة «كنت أستمع إلى الباحثين وهم يدعون بحرارة وصدق إلى ضرورة الحوار مع الآخر، وإلى ضرورة التفاهم والتعايش السلمي، وكنت أسائل نفسي: هل نحن الذين نرفض حوار الآخر؟ أو هم الذين يرفضون حوارنا؟».
وفي إطار فهمنا لأنفسنا أختم بكلام مهم لا يعجب الكثيرين قاله المؤلف.. كان القرن الماضي عصر الإيديولوجيات بامتياز، وفي كل إيديولوجيا- كما يعلمنا التاريخ والفلسفة- مقدار من الأوهام، ولكنهما يعلماننا أيضاً أن الإيديولوجيا ليست أوهاماً كلها.
فهل عدنا لندرس تجربة هذه الإيديولوجيات مهما كان نوعها؟ وهل وصلنا إلى نتائج في فهم ذواتنا؟ أم إن التضخم المرضي للأنا في ظل الإيديولوجيات بقي مسيطراً ليدفعنا كما يقول هنري كيسنجر إلى صراعات بينية أضعاف ما حصل مع العدو الإسرائيلي كما يقتبس المؤلف؟
إنها قضايا ثقافية سياسية وجودية تستحق منا اهتماماً بالغاً، فهل نفعل؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن