قضايا وآراء

حروب طواحين الهواء

| بقلم د. بسام أبو عبد الله

لم تكن الحرب الفاشية على سورية وشعبها حرباً تقليدية كلاسيكية كما هو متعارف عليه في قواميس الحروب، ولا في أنماط الحروب التي قرأنا عنها، ولكنها مجموعة حروب كما وصفها الرئيس بشار الأسد، حرب عسكرية وحرب استخباراتية وحرب نفسية وإعلامية بأجيالها كافة، وحرب اقتصادية لا بل إرهاب اقتصادي، ومحاولات تجويع للسوريين لكسر الإرادة، وإركاع هذا الشعب العظيم، والأكثر خطورة أنها أيضاً حرب ثقافية، تمس العقيدة والإيمان والقيم والعادات والتقاليد، وإذا أردت تلخيص كل هذه الحروب التي نواجهها فيمكنني أن أقول إنها حرب تهدد وجودنا وبقاءنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ولهذا فإن أدوات المواجهة متعددة، ومركبة، ومعقدة، وليست أدوات بسيطة كما يعتقد البعض ويتوهم.
أحد الجوانب الخطيرة لهذه الحرب الفاشية هو ما يرتبط بالهوية والانتماء، والجذور والعقيدة، وإن شئتم البقاء والمستقبل، ولو أراد البعض أن يتأكد فما عليه سوى أن يراجع الأبحاث والدراسات التي مهدت لمشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد لاحقاً الذي ركز على تفتيت المنطقة على أسس إثنية وطائفية ومذهبية، وسوف يكتشف بوضوح وجلاء أن النقاش والجدال في التاريخ بشكل مجتزأ، أو هوياتي فرعي هو نقاش يوصل من حيث يدرون أو لا يدرون إلى ما يريده هؤلاء الذين يخططون لتفتيت مجتمعاتنا ودولنا ذات الإرث الحضاري الشديد التنوع والذي نعتز به جميعاً.
مناسبة الحديث هو النقاش الحاد الذي جرى مؤخراً على خلفية الانتماء والهوية فيما يخص مفهوم «الأمة السورية» و«العروبة»، والحقيقة أنني لن أدخل في نقاش الجانب الهوياتي- التاريخي- اللغوي أو في الجوانب التي يؤمن بها رفاقنا وشركاؤنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولكني سأحاول تثبيت بعض النقاط التي أراها مهمة:
1- في 25 نيسان 2017 كتب الدبلوماسي الإسرائيلي السابق تسفي مزائيل مقالاً في موقع إسرائيلي ينشر بالعربية اسمه «مدار» ما يلي:
– تحت عنوان فرعي من المحتل؟ أشار فيه إلى أن الاحتلال في الشرق الأوسط ليس إسرائيلياً، وإنما هو احتلال عربي- إسلامي مستمر، ويمارس القمع والاضطهاد منذ القرن السابع الميلادي.
ويمرر فكرة أن الأكراد والبربر والأقباط وغيرهم من حقهم الانعتاق والتحرر من هذه الهيمنة!
أدعو الجميع للتدقيق بين ما يطرحه هذا الدبلوماسي الصهيوني وما يمارس على الأرض من محاولات لمشاريع انفصالية لتفتيت الدول والمجتمعات في الوطن العربي.
2-إن العروبة التي طرحها ووضحها الرئيس بشار الأسد في أكثر من مناسبة هي مفهوم «حضاري- ثقافي» واسع وليس بعداً قومياً كلاسيكياً كما هو متعارف عليه، أي الوعاء الذي ساهمت به كل القوميات والإثنيات وغيرها، وجعلتها عروبة غير عنصرية للجميع يد في إثرائها وإغنائها وتطورها.

3-إن وجود هويات ثانوية لأي إنسان هو مدعاة للفخر والاعتزاز، ولم يقل أحد ما إن العروبة تعني إلغاء تاريخنا الطويل والحضارات التي مرت، واندثرت على هذه البلاد، وهي حضارات متتالية استفادت من بعضها البعض، وتنافرت في أحيان أخرى، ولكنها نهلت وتفاعلت مع البيئة الحضارية الواحدة الممتدة على مساحات واسعة من هذه المنطقة ما بين بلاد الشام والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي، وبالتالي فإن اجتزاء التاريخ كيفما كان هو أمر صعب للغاية، لا بل غير ممكن وغير علمي، ونحن أبناء هذا التاريخ الطويل والعريق والمتفاعل والمشترك.
4- إن محاولات الهجوم المتواصل على الإسلام والمسلمين تحت عناوين «مكافحة التطرف» والإرهاب، وإلصاق كل الموبقات بالدين هي محاولات مشبوهة يقودها الصهاينة والمفكرون الغربيون، بهدف تدمير عقائد شعوبنا، وبالتالي تفتيت المجتمعات، على الرغم من أن هذا التطرف وهذا الإرهاب الفاشي الذي شهدناه خلال السنوات العشر الماضية لا يجوز أن يدفعنا باتجاه الكفر بالدين، أو طرح فصل الدين عن الدولة بطريقة جاهلة وغير ممكنة وغير صحيحة، وبالتالي ماذا نسمي قتل ملايين البشر مسلمين ومسيحيين، ومن كل أبناء هذه المنطقة في العراق وسورية واليمن ولبنان والسودان والجزائر والأهم في فلسطين، أليس هذا إرهاب دول، فهل أسميه «إرهاباً مسيحياً» مثلاً؟ ومن قال إن السيد المسيح له علاقة بممارسات هؤلاء أو أن المسيحية تدعو للقتل والتجويع وإفناء الآخر، والأمر كذلك ينطبق على الإسلام والمسلمين.
إن قراءة بسيطة لأرقام ضحايا الإرهاب في الغرب، سوف تعطينا نتائج مفاجئة أن أعداد من قتلوا برصاص المتطرفين اليمينيين أكبر بكثير مما قامت به مجموعات القاعدة، وداعش وغيرها، والتي هي بالأساس جماعات صنعت ووظفت بخدمة أجندات الاحتلال والهيمنة والتفتيت وتدمير العقيدة والدين ودوره المجتمعي الهام في الانتماء والتجذر.
4-إن القرآن الكريم، أحب البعض ذلك أم لا، حفظ اللغة العربية وحولها إلى لغة عالمية، واللغة هي حامل الثقافة والوعاء الذي تصب به إبداعات الشعوب، والحضارات، وأسأل هنا أليس هاماً لنا جميعاً أن لغتنا تسمع وتقرأ بين مليار ونصف مليار مسلم في العالم على اختلاف القوميات والجنسيات وهي لغة عظيمة، وصمغ لابد منه لتعزيز الانتماء والثقافة والهوية، ثم تخيلوا معي لو أننا الآن نتفاهم عبر اللهجات المحلية واللغات القديمة كيف سوف تكتب بالعامية الشامية أم الحلبية أم الديرية أم الحمصية أم القلمونية أم الساحلية، وساعتئذٍ سوف نتحول إلى أناس علينا تعلم مئات اللهجات المحلية واللغات القديمة وهو أمر مستحيل.

في اللغة الإنكليزية هناك لهجات، ولكنها لغة واحدة وجامعة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفرنسية والروسية والصينية، وغيرها، ومن هنا فإنه من المستغرب فعلاً نبش الماضي لإثبات حاضر مختلف أو محاولة تدمير اللغة العربية لأنها فقط لغة القرآن الكريم وهي لغة أتت عبر تطور تاريخي طويل، وابنة كل اللغات القديمة كما يثبت علماء اللغة.
إن محاولة تدمير اللغة العربية أو إضعافها هي محاولة خطيرة تتم بأساليب شتى، وعلينا إعادة تعزيزها وتقويتها ومنع أي استخدام لمصطلحات أجنبية أو برامج عبر وسائل الإعلام أو في الشوارع والمحلات والأماكن العامة وغيره الكثير.
5- النقطة الأخيرة التي يجب أن أؤكد عليها أننا جميعاً كسوريين مسيحيين ومسلمين ننتمي بالجينات لكل هذا الإرث الحضاري القديم من حضارات مختلفة، وهو تاريخ يمثلنا وننتمي إليه، ولكن لا يجوز أبداً اعتبار الإسلام والمسلمين نتاج هجمة بدوية متخلفة كما يصفها الإسرائيليون وبعض مدعي الثقافة لدينا، إذ لا يمكن لقبيلة أن تؤسس دولة مترامية الأطراف أكثر من 190 عاماً.

دعونا نخرج من هذا التوصيف غير العلمي وغير الصحيح، فالمسيحية بنت حضارتنا، والإسلام ابن حضارتنا، واللغة العربية حاصل تطور حضاري طويل يعود لآلاف السنين.
ونحن أناس يعتزون بالإنجيل كما القرآن، ونعتز بكل الأحزاب والقوى السياسية، والوقت الآن ليس وقت نقاشات ليست مهمة، وليست جوهرية بل وقت بناء الأجيال والتطلع للمستقبل ومواجهة التحديات الماثلة خلف أبوابنا، وداخل بيوتنا.
الوقت الآن ليس وقت حروب طواحين الهواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن