يتابع الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى سرده للأحداث التي عاصرها إبان رئاسته لهذي الأخيرة بحلقة سادسة نشرتها صحيفة الشرق الأوسط في العاشر من الشهر الجاري، وهي في معظمها تركزت على تدخل الناتو في ليبيا في النصف الثاني من آذار عام 2011 الذي انتهى بسقوط نظام العقيد معمر القذافي ثم مقتله خريف هذا العام الأخير.
يقول موسى إن الأنظار بدأت تتجه صوب ليبيا بدءاً من 15 شباط 2011 بعدما اندلعت مظاهرات مناوئة لحكم القذافي للمرة الأولى في بنغازي، ثم تمددت إلى مدن أخرى، ويتابع: إنه لم يكن بإمكانه الانتظار لأيام كانت لازمة لعقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية ما دفعه لعقد اجتماع عاجل على مستوى المندوبين جرى في هذا اليوم الأخير، تبعه بعد خمسة أيام، أي في 2 آذار، انعقاد أعمال الدورة العربية الـ135 على مستوى وزراء الخارجية التي تمحورت حول «استمرار التشاور لحماية المواطنين الليبيين، بما في ذلك اللجوء إلى فرض حظر جوي»، وفي 10 آذار انعقدت الدورة الـ118 لمجلس وزراء دول مجلس التعاون الخليجي برئاسة دولة الإمارات المتحدة، وفيها جرى «تحميل الجامعة العربية لمسؤولياتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لحقن الدماء، بما في ذلك دعوة مجلس الأمن لفرض حظر جوي على الأراضي الليبية»، مع تحفظ كتابي لسورية وآخر شفوي للجزائر، تلا ذلك بعد يومين اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية، كانت قد دعت إليه الإمارات، والاجتماع أكد الدعوة السابقة «لإنشاء منطقة حظر جوي على الأراضي الليبية بقرار صادر عن مجلس الأمن»، فكان القرار 1973 في 17 آذار حيث سيباشر الناتو البدء بعملياته العسكرية قبيل يومين من صدور القرار الآنف الذكر.
إذاً في خلال خمسة عشر يوماً فقط جرت أربعة اجتماعات كانت حاسمة للمسار الذي ستخطو نحوه الأزمة الليبية فيما بعد، ثلاثة منها للجامعة العربية، تخللها اجتماع رابع هو الأكثر حسماً كان لدول مجلس التعاون الخليجي الذي قاد بالتأكيد إلى صدور بيان الجامعة يوم 12 آذار السابق الذكر، كان ذلك مؤشراً مؤكداً على انزياح مركز الثقل العربي نحو عواصم أريد لها أن تلعب دوراً محورياً في المنطقة، وهي في أدائها لذلك الدور كانت أشبه بـ«بالونات منفوخة» دفعتها أحقادها المتراكمة تجاه نظام العقيد القذافي الذي ما انفك يهاجمها من على كل المنابر، نحو اتخاذ وضعية «المطية» لخارج كانت لديه أهداف كبرى، والغريب أن تلك «المطية» سرعان ما تشظت أنسجتها بعد اكتمال الدور، فافترقت قسمين كان كل منهما قد صدق نفسه بأنه ماض نحو جني الثمار، ظهر ذلك في افتراق الخطوات ما بين قطر التي راحت تسعى نحو إيصال حكم إخواني إلى سدة السلطة في طرابلس الغرب، على حين مضت السعودية والإمارات إلى فعل معاكس يؤدي إلى قيام حكم موال لهما أياً يكن نسيجه خارج إطار الإخوان، والراجح هو أن ذلك الافتراق كان تأسيساً للأزمة الخليجية الحاصلة مع قطر والمنفجرة في أيار من عام 2017 التي لم تنقض فصولها بعد، من دون أن يكون ذلك ملغياً لوجود العديد من الافتراقات الأخرى التي قادت إلى تلك الأزمة.
كأني بالأمين العام لم يسمع برسائل البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي ما انفكت تتوالى تسريباتها بدءاً من عام 2015 إلى اليوم، وهي في شقها الذي يتناول الشأن الليبي، كانت تؤكد أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي كان محموماً بحلم إسقاط نظام العقيد القذافي لأسباب عديدة، أبرزها سعي هذا الأخير لإصدار عملة إفريقية تكون بديلاً من الفرنك الفرنسي، ومنها السطو على 130 طناً من الذهب كان تحتويها البنوك الليبية، ومنها أيضا نسف الوثائق التي تشير إلى العلاقة القائمة ما بينه وبين القذافي الأمر الذي يفسر المصير الذي لقيه هذا الأخير، ضماناً لعدم انكشاف التمويل الذي قدمه دعماً لحملة ساركوزي الانتخابية عام 2007، حيث كانت الآمال قائمة لدى الأخير بتمديد إقامته في الأليزيه لخمس سنوات أخرى.
عدم إتيان عمرو موسى على ذكر كل ذلك يعني أنه لم يذهب إلى طرح ما كان يجري في الكواليس التي كان مطلعاً عليها ولا شك، إذ يجب بأي حال من الأحوال ألا يكون مستشرفاً، على الأقل، للأحداث التي كانت ظلالها تنبئ بها، والفعل، أي عدم الإتيان على ذكر ما سبق، يعود لمحاولته نفي صفة «المطية» التي التصقت به رفقة إلى جانب الجامعة العربية التي سيطرت على قرارها دول الخليج الجاهدة نحو إحداث تحولات في مراكز الثقل القائمة في المنطقة تماشياً مع إملاءات الخارج، وكان جاهداً هو الآخر نحو إدخال المنطقة في سراديب عصر جديد تكشفت تباشيره في مقبل السنوات، وإن كانت العراقيل لا تزال قائمة أمام سير ذلك الدخول إلى ذلك العصر المأمول.