«الأم هي المندوب السامي للسماء على الأرض».
تذكرت هذه الكلمات التي كتبتها في دفتر ملاحظاتي قبل سنوات، عندما قرأت بالأمس قصة مؤثرة شديدة التحفيز، عن معجزة مدهشة اجترحتها أم مصرية أمية أواخر القرن ما قبل الماضي. والحق أنني كنت أنوي الكتابة عن موضوع آخر إلا أن قصة الفلاحة المصرية البسيطة مبروكة خفاجي فرضت نفسها على وجداني حيث باتت كل الموضوعات الأخرى بعيدة وشاحبة في نظري. لذا اسمحوا لي أن أعيد صياغة الحكاية لكم انسجاماً مع قناعتي بأن أوجب واجبات الكاتب تجاه أي حكاية يرويها هو أن يعيد صياغتها بأسلوبه الخاص بحيث يبرز جوهرها ويكثف معناها.
بطلة قصتنا امرأة أمية من إحدى قُرى محافظة كفر الشيخ، تزوجت عام 1879 من فلاح يشتغل بالأجرة كعامل زراعي مياوم يدعى إبراهيم عطا. ولأسباب مختلفة يأتي على رأسها ضيق الحال، وقع الطلاق بين الزوجين على حين كانت مبروكة في الشهور الأخيرة من حملها. ونظراً لأنها كانت يتيمة الأب فقد التحقت بوالدتها وأخيها وانتقلت معهما إلى الإسكندرية حيث أنجبت ابنها الذي أسمته علي.
لم تستسلم مبروكة لقسوة ظروفها، ولم تشأ لابنها أن ينشأ أمياً مثلها، فعملت بائعة جبنة في شوارع الإسكندرية وأدخلت ابنها إلى مدرسة رأس التين الأميرية. وعندما حصل الولد على الشهادة الابتدائية جاء والده كي يأخذه ويزج به في سوق العمل. لكن مبروكة هربت مع ابنها عن طريق سطح بيت الجيران وأخذته إلى القاهرة حيث أدخلته إلى المدرسة الخديوية وعملت كخادمة كي تنفق على تعليمه. وتقديراً من الفتى النجيب لتضحيات أمه في سبيل تعليمه فقد كان دائم التفوق، ما أهله لدخول مدرسة الطب عام 1897 والتخرج فيها عام 1901.
وهكذا أصبح ابن مبروكة الأمية طبيباً وراحت سمعته الطيبة تنتشر في البلاد، في عام 1916 مرض السلطان حسين كامل واحتار الأطباء في مرضه، فاقترح أحد رجال البلاط اسم الدكتور علي إبراهيم ابن مبروكة، فشخص علي مرض السلطان وأجرى له جراحة خطرة وناجحة، ونتيجة لذلك عينه السلطان جراحاً استشارياً للحضرة العلية وطبيباً خاصّاً له، كما منحه رتبة البكاوية. وفي عام 1922 منحه الملك فؤاد الأول رتبة الباشاوية. وفى عام 1929 تم انتخابه كأول عميد مصري لكلية الطب بجامعة فؤاد الأول، ثم أصبح رئيساً للجامعة، وفي عام 1940 تم تعيينه وزيراً للصحة، وفى العام نفسه، قام بتأسيس نقابة الأطباء وأصبح أول نقيب لها في تاريخها.
ليس مصادفة أن كلمة «الأم» تكمن في قلب «الأمة» فبناء شخصية الأمهات هو العامل الحاسم في بناء مستقبل الأمم ورقيها. تحية لكل أمهات أمتنا وكل عام وهنَّ مصدر كل خير وأمل.