«لدينَا مشاكِل مع أشخاص في المستويات العليا، لو لم تكن هناك قضايا على أعلى المستويات لكانت علاقاتنا مختلفة تماماً»، بهذهِ الكلمات وصَّفَ رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان العلاقةَ مع إسرائيل متمنياً أن تذهبَ في القريبِ العاجل بعيداً مع تأكيدهِ بأن التعاونَ الأمني مستمر ولم ينقطع، كلام أردوغان تزامنَ مع مفارقتين:
المفارقة الأولى أنه جاء عقب أدائهِ صلاةَ الجمعة، كيف لا وجوامع تركيا تنادي بهِ الخليفة القادم لتحريرِ القدس؟! أليسَ هو ذاته الذي فتحت أذرعهُ الإعلامية النار على ما يسمونهم المطبّعون الجدد بذريعةِ أن التطبيع مع إسرائيل سيؤدي لضياع القدس؟!
المفارقة الثانية أنها جاءت بعد قيام حزب العدالة والتنمية المغربي، وهو شقيق العدالة والتنمية التركي بالولادةِ نتيجة لسِفاح المتأسلمين مع السياسة عن توقيعِ بيان مشترك مع إسرائيل بوساطةٍ أميركية يمهدُ للتطبيع النهائي بين المغرب وإسرائيل، بعدَ أن كانت العلاقة تقتصر على افتتاحِ مكاتبَ تمثيلٍ تجارية. ببساطةٍ إنه العقل الإخواني الذي يُبدع في كلِّ مرةٍ يريد فيها تسويقَ كذبهِ وادعاءاتهِ للاستثمار في القضيةِ الفلسطينية ورد كل تصرفٍ استسلامي إلى مرجعيتهِ الدينية من مبدأ الجنوح إلى السلم، هذا العقل يتصرف هكذا في الحالةِ العادية، فكيفَ والحال باتَ أقرب للتسابق بين من سيطَبِّعُ أكثر؟!
حتى الإعلام القطري الذي لم يترك مناسبة تطبيعية لجيرانهِ الأعداء إلا وأفردَ لها حلقاتٍ حوارية ليُقنع بها القطيعَ الذي مازال يصدق كذبةَ الرأي والرأي الآخر بأنهم سيبقونَ حُماةَ القدس، صمتَ عن تصريحاتِ أردوغان وكأنَّ شيئاً لم يكن، بل إنه ذهب إلى الجهةِ المعاكسةِ تماماً ليبحث عن تصريحاتٍ هنا وهناك يبني عليها ما يريدهُ، فوجد ضالتهُ بتصريحاتِ الأمين العام السابق للجامعةِ العربية عمرو موسى، الذي قال بأن الجامعة لا يمكن لها أن تمنعَ أي دولةٍ من التطبيعِ ولا يمكن لها أن تطلبَ من أي دولةٍ محاربةَ إسرائيل.
يبدو كلام عمرو موسى محاولة للهروبِ إلى الأمام متمادياً في تبرئةِ ما يُسمى الجامعة العربية مما يجري، وهو نسيَ كما الإعلام القطَري أن كلامهُ هذا يعرفهُ القاصي والداني، لكن على عمرو موسى وغيرهِ أن يعيدوا ضبطَ تصريحاتهم على توقيت همروجةِ التطبيع المستفحلة هذه الأيام وبمعنى آخر:
لا أحد يريد من الجامعة العربية أن تطلب من أحد محاربةَ إسرائيل، لكن المطلوب فعلياً هو الكف عن التآمر على من لا يزال في حالةِ حربٍ مع إسرائيل، لا أحد يريد من الجامعة العربية أن تمنعَ أحداً من التطبيعِ مع إسرائيل، لكن لماذا هناك من لا يزال يمنع مجردَ افتتاح سفارةٍ عربية في سورية؟!
من سخرياتِ القدر أن المواطنَ العربي باتَ اليوم يوازن بين انبطاحٍ وانبطاح، بينَ متآمرٍ مضطر ومتآمرٍ بـ«مزاج»، بمعنى آخر فإننا لو عدنا للتاريخ فإن اتفاقيةَ كامب ديفيد المشؤومة مضى عليها أكثر من أربعةِ عقود، ونصفهم تقريباً لمثيلتها الأردنية لكننا عملياً لم نشهد ماشهدناه خلال هذه الأسابيع البسيطة من عمر التطبيع الخليجي مع إسرائيل، لدرجةٍ تدفعنا فعلياً للتفكير بنوعية هذا التطبيع، ففي مصر مثلاً مازال هناك نقاباتٍ ومنظماتٍ شعبية تُجرّم التطبيع، حتى ما يحكى عن أن الأمر هو سياسة حكومية متَّبعة بحيث تستطيع مصر لجم التطبيع عبر التذرع بالحاجز الشعبي، لكن بطريقةٍ أو بأخرى هناك موقف ما تجاه هذا التطبيع.
أما في اتفاقيات التطبيع الحالية فالحالة تحتاج فعلياً للتوقف عندها من هذه الوقاحة في التعاطي التطبيعي، فأن يقف ضيوف إماراتيون وبحرينيون في الجولان السوري المحتل ليحيّوا ما سموه «شجاعة الجيش الإسرائيلي»، هذا كلام نحتاج فعلياً للوقوف عنده أن يظهر نشطاء على الإعلام الصهيوني ليقولوا بأنهم غُيبوا خلالَ عقودٍ عندما كان هناك من يقول لهم بأن «اليهود» أعداء، هذا كلام أيضاً يستحق الوقوف عنده، القضية لم تعُد بالسؤال المشروع لماذا هذا التطبيع؟ القضية فعلياً لماذا هذهِ المبالغة في التطبيع؟
تتعدد الإجابات على هذا السؤال، بعضها لا يستحق الوقوف عندهُ، وبعضها الآخر يبدو مُهماً، فمثلاً: هل من صراعٍ بينَ الوهابية والإخوانية على وراثةِ المنطقة؟
في الحالة الإخوانية علينا الاعتراف بأن سقوط سورية بيدهم كانت ستتيح لهم وراثة كل شيء، أما في الحالة الوهابية فإن التكتيك يختلف وبمعنى آخر، هم يتعاطون حسب المثل الفرنسي «من يدفَع يقرِّر»، حتى لو لم يتم تطبيق الوهابية بحيثياتها لكن يكفي السيطرة على القرار وهو ما تحقق لهم في مصر.
على هذا الأساس لا يمكن عملياً تجاهل فكرة هذا الصراع ورؤية مستقبل المنطقة من خلال العلاقة مع إسرائيل، هذا الصراع ليس بجديد بل إنه أُثير سابقاً بين الملك السعودي السابق عبد اللـه بن عبد العزيز، وأمير قطر المطرود حمد بن خليفة، الأخير كان قد أعلن في العام 2012 خلال افتتاحهِ لأحد المساجد في الدوحة بأن قطر تلتزم الوهابية وستبقى تطبقها، الرد السعودي يومها وعبر الأقنية الإعلامية كان بسيطاً: من يدِّعي الانتماء للوهابية لا يضع جميعَ بيضهِ في سلة الإخوان؟! في إشارة إلى العلاقة مع تركيا، هذا الصراع في المذهبيات التي تحكُم الخليج، هو عملياً انعكاسٌ للصراعِ القبلي الذي سيدفع كل الأطراف أكثر نحو إسرائيل وما هو أبعدَ من إسرائيل. فكيف ذلك؟
قبلَ أيام أعلنت قطر عن تقديمها شكوى للأمم المتحدة بسببِ تجاوز طائراتٍ بحرينية مجالها الجوي، الخبر بدا كنكتةٍ سمجة ليس فقط لأنه الأول من نوعهِ في العلاقة بين المشيختين، بل للحيز الجغرافي الضَّيق الذي يجمعهما، والأهم هي قدرة كلتيهما على خوضِ حربٍ ضروسٍ بينهما، أي إن الوقائع كلها تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن كل تلكَ المشيخات أضعف بكثير من قرارِ حربٍ أو حتى حلِّ خلاف، القرار كلهُ مرتبط بشكلِ المنطقة مستقبلاً في ظل التطبيع المتفشي، هل هي إخوانية برعاية إسرائيلية؟ أم هي وهابية برعاية الأموال الخليجية؟
كلا الشكلين هما ما يتم تجهيزهُ للمنطقة، لا يهم الأميركي من المنتصر في هذا الصراع طالما أنه سيشكل ضلعاً مع إسرائيل، لا يهم الأميركي كيف سيكون شكل العلاقة مع إيران لأن الوصول لحلم كهذا سيجعل من إيران وكل ما تمتلكه من ترسانة تحصيلَ حاصل، ما يهم الأميركي اليوم أن يكون التطبيع شاملاً، هو يدرك بأن كل هذا المشروع سيفشل في حال بقي في إطار الدول التي هي أساساً ترى الخلاف مع إسرائيل خلاف وجهات نظر، الهدف هو الدولة الوحيدة المتبقية والتي يبدو الاستحواذ على قرارها هو حجر أساس في استكمال هذا المشروع، فهل سينجحون؟
الجواب على هذا السؤال عند الدولة السورية وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد، لأنه ببساطةٍ هو آخر من يقرن القول بالفعل في مسألةِ الصمود.