كأنما وجدت ركائز الدبلوماسية الأميركية المعنية بالأزمة السورية نفسها معنية بإجراء جردة حساب لولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي شارفت سنواتها الأربع على نهايتها، فالمؤكد اليوم هو أن عداد الأيام لهذا الأخير قد تجاوز خطه الأحمر الذي يشير عادة إلى دخوله للمرحلة الحرجة، بعد أن تأكد أن «مشاغباته» الرامية إلى تمديد إقامته كلها لم تكن كفيلة بإعطاء الزخم اللازم لنجاح هذا الفعل الأخير كما كان يأمل، دون أن يعني ذلك أن مخيلة الرجل قد باتت خاوية تماماً، إذ لربما كانت تلك المخيلة لا تزال تخبئ في مطاوي سراديبها إحدى المفاجئات التي عودنا إياها، كأن نستيقظ ذات صباح فنقرأ من على تويتر، منصته المفضلة التي كانت تنقل عنها كبريات وكالات الأنباء قرارته الأكثر أهمية، أنه قرر البقاء في بيته الأبيض هكذا ودون مقدمات أسوة بالكثير من السلوكيات التي كانت تحمل من الغرابة الشيء الكثير، كأني بترامب يريد القول إنه هو الذي يحمل الرقم واحد في كل شيء: القوة والسطوة والأضواء، وكذا مواكبة العصر واختزال الأساليب الكلاسيكية.
في غضون شهر كانون الأول الجاري خرج مسؤولان أميركيان سابقان، والصفة الأخيرة تتيح بالتأكيد قدراً أكبر من المرونة غير المتاحة إبان وجود المتحدث على رأس منصبه، كان كلاهما شديدي الالتصاق بالملف السوري انطلاقاً من التسمية التي حملاها، ففي 13 من الشهر الجاري نشرت صحيفة الشرق الأوسط حديثاً أجرته مع جيمس جيفري المبعوث الأميركي السابق الخاص بسورية، وأهم ما قاله فيه: «إن العقوبات تضر بالنظام وتعرقل قدرته على اتخاذ القرار والأعمال العسكرية»، وتلك إشارة واضحة إلى مصلحة أميركية في إبقاء ملفي إدلب وشرق الفرات على حالهما، حتى إن جيفري كان قد أشار صراحة في مقابلته تلك إلى أن «تركيا بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي لن تسمح بعودة إدلب إلى النظام»، أما في ملف شرق الفرات فقال إن بلاده تهدف من خلال وجودها هناك على الأرض، وكذا من خلال وجودها الجوي، إلى حرمان الرئيس «بشار الأسد وروسيا وإيران من السيطرة على الأراضي هناك»، قبيل أن يضيف إن واشنطن ماضية في دعم التلاقيات الكردية- الكردية التي بدأت في دهوك عامي 2014 – 2015 لتشكيل جبهة قوية في مواجهة الحكومة السورية، وفيما يخص شروط واشنطن للتطبيع مع دمشق قال إنها تتمثل في تطبيق القرار 2254، انسحاب القوات الإيرانية، عدم توفير ملجأ آمن للإرهابيين، تنفيذ جميع الالتزامات المتعلقة بالبرنامج الكيميائي المتضمنة في القرار 2118 لعام 2013، العمل على عودة اللاجئين السوريين.
بعد ثلاثة أيام من حديث جيفري قدم السفير الأميركي السابق روبرت فورد من على المنبر السابق عينه جردة حسابه هو الآخر، لكن الأخيرة تكاد تكون مختلفة عن الأولى في كل شيء، ففي مقال نشره هذا الأخير يوم 16 كانون الأول الجاري قال إن «مسؤولاً كبيراً في وزارة الخارجية الأميركية كان قد قال أمام إحدى لجان الكونغرس في الأسبوع الماضي إن الهزيمة المستدامة لداعش في سورية، وانسحاب القوات الإيرانية منها، مع الوصول إلى حل سياسي دائم للأزمة السورية، مسائل كلها باتت في متناول الأيدي»، إلا أن فورد لا يبدو في مقاله آنف الذكر قريباً من التصور الذي قدمه المسؤول الأميركي الكبير الذي لم يسمه، بل على العكس نراه يذهب إلى تصور على النقيض منه فيقول «أرى ضغوطاً متزايدة على دمشق، في الوقت الذي لا ألمس فيه أي إنجازات تساعد الجانب الأميركي على المدى البعيد»، ليخلص إلى قناعة مفادها أن الرئيس «بشار الأسد لا يزال يرفض تنفيذ الإصلاحات السياسية الجادة»، وهو يقصد بالتأكيد أن الرئيس الأسد لا يزال يرفض تنفيذ الإملاءات الأميركية.
لم تخل جردة حساب فورد من الإشارات التي لا يخطأ ناظر مرماها الذي تصوّب عليه، فهو قال إن الحكومة الأميركية «تأمل في أن ينبع التغيير من داخل النظام السوري» والعبارة تمثل صراخاً يراد إيصاله إلى المعارضة السورية التي يجب أن تبني سياساتها على تلك القاعدة، كما لم تخلُ من المفاجئات أيضا، ففي تقييمه لوضع تنظيم داعش ما بعد الباغوز 2019، يقول إن التنظيم في مناطق شرق الفرات بات ضعيفاً جداً، لكنه ليس كذلك في مناطق غرب الفرات، حتى إنه استطاع مؤخراً اغتيال جنرال روسي في تلك المناطق، والمدهش هو قوله إن «العقوبات الأميركية على دمشق تقلل من الموارد المتاحة أمام الحكومة السورية لمحاربة التنظيم».
من الواضح أن كلا الجردتين لجيفري وفورد متناقضتان بدرجة كبيرة، بل تكاد تكون الرؤى والتلاقيات بينهما شبه معدومة، وهذا يؤكد أنه كانت هناك في غضون السنوات الأربع من ولاية ترامب «أميركتان» لا أميركا واحدة، في طريقة التعاطي مع الأزمة السورية، ومن المؤكد أنه يمكن تعزيز هذا الحكم الأخير عبر التذكير بنجاح المؤسسة العسكرية الأميركية (البنتاغون) في إبطال مفعول قرارين كان قد اتخذهما الرئيس ترامب بخصوص انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية، ولربما كانت نقطة التلاقي الوحيدة بين تينك الجردتين تتمثل في النصائح التي قدمها كل منهما على حدة لإدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن المقبلة، والتي يمكن صوغها باختصار عبر الدعوة التي وجهها الاثنان لتلك الإدارة «إلى التفكير العميق في حقيقة الأولويات الأميركية في سورية»، وتلك وحدها كافية لطرح إمكانية حدوث انقلاب في الأولويات التي كانت واشنطن تضع لها تراتبية معينة فتقرر من خلالها سياساتها تجاه دمشق.
يمكن القول إن الإعلان عن الرزمة الأخيرة من العقوبات الأميركية على سورية التي بلغت حتى الآن 114 كياناً وشخصية سورية منذ انطلاقة «قانون قيصر» في شهر حزيران الماضي، إضافة إلى جولة المبعوث الأميركي جويل روبرن الأخيرة إلى المنطقة، والتي كانت الرسالة الأبرز التي أرادت إرسالها «لا تضعفوا من قدرة الولايات المتحدة في الضغط على سورية»، يمكن القول إن كلا الأمرين يمثل انتصاراً لفريق أميركي داع إلى ممارسة الضغط على دمشق لتقديم تنازلات جيوسياسية من الصعب الحصول عليها، على فريق يرى أن تلك العقوبات ذات تداعيات خطرة في نواح عدة بما فيها قدرة الحكومة على مواجهة الإرهاب وفي الذروة منه تنظيم داعش وهو ما قاله روبرت فورد نفسه، ولربما ما يشير إلى صحة هذه الفرضية هو توقف المفاوضات الأميركية السورية، التي كان الإعلان عنها في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية و«الوطن» السورية دليلاً على توقفها وإلا لما كنا سمعنا بها أصلاً، من دون أن يعني ذلك توقفها نهائياً، فدمشق أبدت على لسان وزير خارجيتها فيصل المقداد الذي أعلن في مقابلة مع قناة «آر تي» في أعقاب زيارته الأخيرة لموسكو استعداد دمشق لفتح حوار مع واشنطن «يضمن انسحاباً أميركياً من الأراضي السورية، وموقفاً معتدلاً حيال الأوضاع في المنطقة، وسياسة متوازنة حيال القضايا العربية يشمل وقف الدعم الأعمى لإسرائيل»، هذا سيحدث فالوجود الأميركي في سورية لا مستقبل له، والخيارات التي تملكها دمشق في مواجهة ذلك الوجود عديدة، قد تكون الظروف معقدة، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال انعدام فرص المضي قدماً نحو تحرير كامل التراب السوري.