قضايا وآراء

بايدن والسعودية

| عبدالمنعم علي عيسى

راحت القوى الدولية والإقليمية تمضي في تموضعاتها الجديدة بشكل واضح تبعاً لتكشف المشهد الأميركي الذي تؤكد تراسيمه وفق العديد من المؤشرات إمكان حصول تحولات كبرى في السياسة الأميركية مع الوصول المنتظر لجو بايدن إلى البيت الأبيض صبيحة يوم 20 من كانون ثاني المقبل، والرواح يقتضي أيضاً طي مرحلة دونالد ترامب، ولربما الاستثمار في ما تبقى من أيامه لاستصدار مراسيم أو تشريعات لن يكون لها فعل يزيد على فعل المسكنات التي سيزول تأثيرها سريعاً بمجرد أن يمسك الرئيس الجديد بمفاصل القرار، وهو لن يتوانى بعدها عن أن يمضي قدماً في تنفيذ برامجه المعلنة التي تثير قلق العديدين.
في منطقتنا يبدو النظامان التركي والسعودي هما الأكثر قلقاً تجاه المتغير الأميركي المرتقب الذي يبدي نزعة هجومية تجاه كلا النظامين، وربما كان في الأمر ما يدعو إليه، بل ويستدعي المزيد منه أيضاً، فبايدن كان قد توعّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاباته الانتخابية باقتلاعه من السلطة فيما لو وصل هو إليها، لكن الحكاية مع النظام السعودي تبدو مختلفة تماماً، فلا التفكير الأميركي يمكن أن يذهب في هذه الآونة إلى هز عرش الأسرة السعودية الحاكمة، ولا إشعال الفوضى في الديار السعودية يبدو خياراً ممكناً قد تعتمده واشنطن في المرحلة المقبلة، لكن ذلك لا يلغي إمكان اللجوء إلى خيارات أخرى من نوع دعم تيار أو «فخذ» في مواجهة تيار أو «فخذ» آخر داخل هيكلية النظام نفسه.
هذه الإمكانية المرئية عن بعد بالنسبة لرأس هرم السلطة في الرياض هي التي دفعت لتقديم الأخيرة طلباً للحكومة الأميركية يقضي بمنح حصانة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان على خلفية دعوة قضائية تتهمه باستهداف ضابط مخابرات سابق يحمل أسراراً حول صعود ابن سلمان إلى السلطة.
هذا الخبر ورد في تقرير لـ«واشنطن بوست» الأميركية نشرته منتصف هذا الشهر، وفي توقعات محلليها التي وردت في نهاية التقرير رجحت الصحيفة عدم استجابة واشنطن للطلب السعودي بحكم تغير الإدارة الأميركية قريباً، وأضافت: «من الصعب إقناع واشنطن بمنح حصانة للأمير محمد بن سلمان في حين يستعد دونالد ترامب لمغادرة البيت الأبيض».
مصادر الخوف المتأتية من توجهات جو بايدن السعودية متعددة، بل وتستمد زخمها من منابع عدة، فالأخير كان قد أطلق مؤخراً، ما بعد انقشاع جل الضباب في مشهد الانتخابات الأميركية، تصريحاً جاء فيه أنه «سوف يعيد تقييم العلاقة الأميركية مع المملكة السعودية»، وإعادة التقييم مصطلح مطاط من الصعب الآن وضع حدود لدرجة مطاطيته، لكن حتى ولو جاءت تلك الدرجة في حدودها الدنيا، فإنها ستكون بلا شك من النوع الضاغط على النظام بدرجة قد تهدد استقراره بفعل التحولات الجارية في دواخل النظام والمجتمع، الأمر الذي كان على الدوام محط اهتمام الإدارات الأميركية السابقة، وفي الذكرى الثانية لاغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي ذهب بايدن إلى القول: «إن إدارته ستنهي الدعم الأميركي للتدخل العسكري السعودي باليمن»، وهذا فيما لو حصل فإنه سيكون بمنزلة نزع الغطاء عن جلباب ذلك العدوان المستمر منذ خمس سنوات، والمهم في الأمر أن الرياض لم تستطع حتى في ظل الدعم الأميركي تحقيق مراميها من ذلك العدوان على امتداد كل تلك السنوات، فكيف سيكون الوضع إذاً في ظل غياب ذلك الدعم الذي سيكون أشبه بنزع «الشرعية» الدولية عن تلك الحرب في ظل اختلال موازين القوى العالمية لدرجة أصبحت فيها الولايات المتحدة هي من تشرعن الحروب أو تنزع الشرعية عنها، هذا سيؤدي إلى قبول الرياض بوقف لإطلاق النار في ظل موازين قوى ليست لصالحها، ما سيعني انكفاءً سوف تكون له تداعياته الداخلية.
في أيار من العام 2017، أي بعد أشهر أربعة على وصول دونالد ترامب إلى السلطة، زار هذا الأخير الرياض، وعندما عاد منها إلى واشنطن زف بشراه إلى الأميركيين بقوله إنه عاد وجيوبه ملأى بـ450 ملياراً من الدولارات، كانت تلك دفعة على الحساب، لا شك تلتها دفوعات أخرى غير معلنة، لتمرير ما تم تمريره، ولغض البصر عن ما تريد الرياض لواشنطن أن تغض البصر عنه، من نوع «قانون جاستا» الذي أقره الكونغرس أواخر عهد باراك أوباما، وصولاً إلى اغتيال جمال خاشقجي أواخر العام 2018، فيما بعد سيتضح من خلال التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المملكة إبان عهد ترامب أن دفوعات المال المقدمة لهذا الأخير كانت مترافقة أيضاً بطلبات تقضي بإخراج المجتمع السعودي من حالة التقوقع التي يعيشها، والتي استولدت أو هي صدّّرت العنف إلى العديد من مطارح الأرض بما فيها الأرض الأميركية نفسها.
هذه الدفوعات الآن، وكذا تنفيذ الطلبات، يبدو أنها كلها لم تعد كافية، بل ولا يبدو أن الرياض بوارد أن تنال الرضا الأميركي حتى ولو قدمت نظيرة لها، أو أخريات زائدة عليها بأضعاف، المطلوب الآن أكثر بكثير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن