ثقافة وفن

دمشق.. بصمة الإبداع والحب … فرناندو دي أراندا عشق الشام فبناها بروحه وتصميمه

| إسماعيل مروة

دمشق التي نحيا في طرقاتها، نجول بين أبنيتها، تتعلق أبصارنا بشواهد الأبنية الباقية، نقف أمام محطة حجازها، نشده بالبناء وعظمته ومقاومته، ويكاد أحدنا يشده عندما يقف أمام مبنى جامعة دمشق العظيم بكل ما فيه، ونمر في مركز دمشق أمام أجمل الأبنية، فيقال هنا كانت السراي، وهنا بيت العابد.. وحين تصل شارع النصر، يقابلنا أحد المباني الجميلة الذي يجمع بين العصرية والأصالة، وفي السنجقدار أبنية أخرى، هذه الأبنية ذات هوية مميزة تدل على ذوق الأصحاب وعلم التصميم، ومن حسن الحظ أن تحتفي سورية بصاحب هذه التصاميم بالتعاون مع السفارة الإسبانية بدمشق لنعرف أن دمشق طرزت وصممت، وأشرف على أجمل مبانيها وأكثر بقاء ومجاراة للحياة وإن تغيرت وظيفتها هو المهندس الإسباني فرناندودي أراندا، الذي يلقى اليوم عناية به وبتراثه من أعلى المستويات.

من أراندا؟

قرأت مرات عديدة عن أراندا في كتب ودوريات، وأكثر ما ركز عليه الذين كتبوا، وكتبهم وكتاباتهم إنشائية تفتقد العلمية والمعرفة والخبرة بفن أراندا وعلمه، لذلك تركز على حياته الشخصية الخاصة، وتحاول أن تجعل منه شخصياً مختلفاً، ويريدون نسج الأساطير والأراجيف عنه وعن زواجه وعلاقاته وإسلامه، مع أن إسلام المرء أو عدم إسلامه يكون معه ويذهب معه، ولا يعني الآخرين، ولا يترك أثراً في الدنيا إن كان صادقاً في اعتقاده أو غير صادق، وتتناسى الكتابات الجانب الأكثر أهمية في حياة أراندا، حيث من الواجب اليوم على محافظة مدينة دمشق أن تصنع لوحات كبيرة أمام إنجازاته ومبانيه لتشير إلى ما قدّمه أراندا لدمشق ولم يفعل مثله أو قريباً منه سواه، فهم أهدوها الهدم والجهل وهو أهداها البنيان والعمارة والخلود، وهذا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الراحل عفيف بهنسي وهو من هو في الآثار والأبنية والعلم، لينصف هذا المهندس الذي أحب دمشق، فأعطاها علمه ومخططاته وإبداعاته لتكون مميزة في الإنجاز المعماري في القرن العشرين. فيقول الدكتور بهنسي: إن اسم فرناندودي أراندا الذي ولد في مدريد عام 1878 وتوفي في دمشق 1969 يبقى الشاهد الأكثر تأثيراً في عملية تطوير العمارة والعمران في دمشق، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لذلك فإن دمشق تبقى وفية لهذا المهندس المعمار.

أراندا اللغز والحل

قرأت مرة لأحد الكتاب عن أراندا ما يشبه الخيال والأساطير، وربما استطاع أحدهم أن يشكك في نسبة المخططات والأعمال إلى أراندا، وقد وقفت المهندسة كارمن سيرانودي آروما رتينيز عند هذا الموضوع بعلمية، فخلوّ مخططات من الأحرف الأولى يعود لأسباب لم ترجح أحدها:
«في عام 1940 ظهرت مخططات لأبنية لا يشك أحد في انتسابها إلى أراندا دون توقيعه بالأحرف الأولى وذلك باعتقادنا يعود لسببين:

1- الأول المؤسسات السورية التي كانت مسؤولة في ذلك الوقت.. تمنعه من الإدارة والإشراف على المشاريع التي كان يصممها بنفسه.

2- عندما نالت سورية استقلالها وفي فترة السعي من أجل إدارة مهنية مختصة كان من الضروري تأهيل فئة مهنية حاصلة على أعلى الشهادات، لذلك بدؤوا يطلبون الوثائق، الشهادات قبل منح أي وظيفة حكومية، ولكن أراندا إما أنه لم يكن يمتلك مثل هذه الشهادات، أو أنه كان يمتلكها ولكن لم يعترف بها، أو أن الشهادات التي كانت بحوزته لم تكن كافية من أجل هذا الغرض»!!

هذا ما كان من أمر أراندا والسلطات السورية بعد كل ما قدّمه على أرض دمشق من أبنية تشهد بخبرته ومهنيته وتفوقه، ولكن الورق كان الأهم لتخسر تصنيف المعلم المندس أراندا، وجميل ما ختمت به هذه المهندسة من قصيدة لشاعر يمتدح أراندا:

ليس في ذاكرتي الحنين إلى الحجارة
أنا حلم السماء الذي يبنى وهو نائم
ناطحات السحاب وسجناً لكبريائه
بأي إله يؤمن أراندا في دمشق؟

وبعد معاناة أراندا بسبب جهل القائمين على تطبيق القوانين والأنظمة يأتي الدكتور عفيف بهنسي بعد ستين عاماً ليقول في تكريمه متجاهلاً المشكلة، ويقرر أن أراندا مهندس:
«كان فرناندو قد تجاوز الثلاثين من عمره، وقد أصبح مهندساً معماراً.. كان أراندا قد درس في إستنبول هندسة العمارة كما درس التصميم في مدرسة الفنون الجميلة، ويتحدث القنصل الإسباني في إستنبول عن مساهمات دي أراندا في تصميم وتنفيذ الجامعة وبعض المشافي».

إذا ما جمعنا قول المهندسة عن مشكلة أراندا، وقول الدكتور بهنسي عن معاهده التي درس فيها وتحصيله، فإلى أيها نركن؟ ولِمَ غاب هذا الأمر عن السلطات السورية آنذاك لتخسر جهود أراندا؟!

منجزاته وميزاتها

إن الإبداعات المعمارية لأراندا في دمشق كثيرة، لكن تاجها والذي يغطي على الإبداعات التي لا تقل عنه هو محطة الحجاز، وربما كان ذلك لمكانة هذا الإنجاز الحضاري من وجدان الناس الجمعي، إضافة إلى ميزات معمارية لا يدركها غير الخبراء، والدكتور بهنسي يذكر هذه الميزات:

1- الموقع وخارج سور المدينة القديمة.

2- عمارتها الأصيلة، ومراعاة استغلال العناصر الطبيعية.

3- استعارة الملامح المعمارية الكلاسية المحدثة ومحطات القطار في العالم.

4- الاهتمام بتصميم الواجهات الأربع للبناء.

5- استعمال الحجر النحيف الذي قام بنحته عمال محليون.

6- التنفيذ التام للعمل كان من المهنيين المحليين.

وإضافة إلى ذلك هناك أعمال لأراندا صممها وأشرف عليها بنفسه، وأعمال أخرى قام بالإشراف عليها وتنفيذها، وهي ليست من تصميمه، وإنما كانت تصميماتها جاهزة، لكن التنفيذ كان من الأهمية بمكان لطبيعة البناء والأرض والزمان.
ويشير البهنسي إلى عمارة العابد في ساحة المرجة التي أنجزها عزت العابد عام 1910، ويضيف واصفاً عبقرية أراندا بأن هذا البناء يقوم على أوتاد ضخمة خشبية مغروسة في أرض طرية، وأنشئت جدرانه من الآجر.. ويضيف لقد اهتم المعمار أراندا بإنجاز هذا المبنى بإشرافه حتى نسب تصميمه أحياناً إليه..
ويذكر البهنسي إنجازاً قد يكون الأكثر أهمية لأراندا.. ولقد اهتم هذا المعمار المهندس بتنظيم المدينة، وبإصلاح الصرف الصحي».

وهذا أمر غاية في الأهمية، فعنايته بالمبنى في المرجة دليل وعيه وعلمه في ذلك الوقت، فالتربة طرية، ولا تحتمل، لذلك لجأ إلى مواد من البناء المحلية التي تساعد على البناء وتحميه وتحمي التربة وبردى.
أما عنايته بتنظيم المدينة والصرف الصحي، فهو دليل علمه لأنه من أسس الهندسة والعمارة، ومن يتابع الأبنية التي بناها أراندا المصرف التجاري أو المكتبة العمومية، أو بيت عطا الأيوبي، أو بيوتات الحلبوني والعفيف وغير ذلك سيجد أن هذه الأبنية أخذت في حسبانها أمور تنظيم المدينة، والاستفادة من المواد الموجودة أصلاً، لذلك لا غرابة أن نجد من يوثق أعمال أراندا أن يشير في مرات قليلة إلى استخدامه الإسمنت المسلح..

أراندا العلاقات والأثر

اللافت للانتباه أن أراندا قام بدور ديبلوماسي حقيقي في القنصلية الإسبانية بدمشق، وفي مرات كان الدبلوماسي الوحيد الذي يقوم على شؤون البلدين سورية وإسبانيا، وقد أسهم بإيجاد علاقات مميزة بين البلدين على وجه الخصوص إذ يقول البهندسي عنه: «استطاع المهندس المعمار أراندا أن يوطد الصداقة والتعاون بين إسبانيا وسورية، وما زالت آثاره المعمارية تؤكد أواصر هذا التعاون الذي نشهده».

وسفير إسبانيا عام 2005 يقول: «لقد ساهم شخص مميز في تكون هذه المدينة الجديدة بشكل بارز، سيد إسباني جعلته تقلبات قرن مضطرب يستقر في دمشق، حيث بقي حتى وفاته، هنا كوّن أسرة، وهنا ترك أثراً لا يمحى في مخططات عمرانية، وأبنية رائعة، عمران دمشق الجديدة لم يكن كما هو عليه لولا فرناندو دي أراندا».

أخيراً

من محطة الحجاز العمل الأكثر أهمية لأراندا إلى البيوتات في العفيف والسنجقدار، والصالحية، إلى الإشراف على بيت العابد، إلى فندق زنوبيا الذي بتدمر، وأقامت فيه أجاثا كريستي إلى الحلبوني وجامعة دمشق، ما بين تصميم ومخططات، وإشراف على تنفيذ مخططات معدّة من قبل. استطاع أراندا أن يتعشق مدينة دمشق فينهل من خصوصيتها وخصوصية هويتها ويهديها العمران الحضاري الحديث الذي صار بعد رحيل أراندا بستين عاماً هوية لدمشق.
يستحق منا أراندا إعادة الاعتبار لمنجزاته، وإقامة دراسات حول المشيدات التي قام بها، وبعث الحياة في الأبنية التي شيدها كما يليق بها، سواء من الأشخاص الذين يملكونها، أو من الدولة التي تملك هذه المشيدات.. وأظن أن تجديد أحد هذه الأبنية التي شيدها ليكون فندقاً كلاسيكياً راقياً «جوليا دومنا» هو واحدة من الخطوات الإيجابية تجاه أراندا وتراثه المعماري وتراث مدينة دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن