قضايا وآراء

عنِ الصمتِ في حضرةِ الإبداع والشهادة.. للخلودِ طريقٌ واحد!

| فرنسا- فراس عزيز ديب

كحبَّاتِ الكمَأ الناتجةِ عن غرامِ رملِ الصحراء ببرقِ السماء زُرِعوا.. كاخضرارِ الواحاتِ الممزوج بربيعِ الأبدية وشتاءِ الخير ارتقوا.. فتيةٌ آمنوا بوطنِهم فزِدناهم هدى، وهل من هدايةٍ أعمقَ من تلكَ التي تجعلك تحملُ سلاحكَ للدفاع عن وطنك؟ حتى بلوغ القداسة بالاستشهاد!
نقدِّسُ استشهادَهم ليسَ لأننا نعشقُ الموت، بل لأننا نعشقُ الحياة ونعشقُ الوطن، وهل من وطنٍ أطهرَ من ذاكَ المعمّد بدماءِ أبنائهِ؟ وهل من حياةٍ أقدسَ من روح الوفاء لمن رفعَ سيفهُ ليقاتل غيرَ مكترثٍ بمن سيموت، بَلْ دفاعاً عمن سيعيش؟!
لم يتعمدوا أن نختم العام اليائس بالعَبْرَة، لكنهم أعادوا لنا صياغةَ العِبْرَة، وهل هناكَ أقدسَ من العبرة الموسومة بالاستشهاد؟ أثبتوا لنا بأن مَن يموت وهو مؤمنٌ بوطنهِ لا يَسقط، بل يرتقي.. هذهِ المقاربة تبدو ضرورية حتى نفهم حقيقةَ الفرق بين السقوط والارتقاء فليس كلُّ موتٍ سقوطاً، وليس كلُّ خلودٍ ارتقاء.
هم كمن سبقهم، أرادوا أن يزرعوا فينا حُبَّ القراءةِ من دفترِ الوفاء حتى نرتقي أكثر، أرادوا أن يعلمونا ببساطةٍ درساً في توظيفِ ما نتقن ليخدم انتماءنا الأول والأخير لوطننا، فبعدَ الوطن تسقط كل الانتماءات، وما قبله حتى لو لم تسقط فهي انتماءاتٌ أتفهَ من المرور عليها. أرادوا ببساطةٍ أن يقولوا للـ«وطنجي» تحرَّك دُونما حماية، فليسَ هناكَ أقدس من هواءِ الوطن ليحميك، ألستَ مؤمناً بالقضاءِ والقدر؟ أم إن هذا الإيمان يبقى حبيسَ الكلماتِ المقروءة والشعارات الخاوية على عروشها؟
في ذاتِ الوقت تراهم أرادوا القول للـ«مبدع» في هذا الوطن، أنت لست مبدعاً إلا بالقدر الذي تناولتَ فيهِ معولكَ لتزرعَ حيثُ القحط، لتبني حيث الدمار، أنت لستَ مبدعاً إلا بالقدر الذي تأسركَ فيهِ ابتسامة الفقراء في وطنك وُيدميكَ صراخ اليتامى، أمّا صمتكَ عنهم فهو مقتل، يجعلكَ أقرب ما تكون لتمثالٍ من حجر تم وضعه في زاويةِ حديقة، يراهُ المارة فيصفقون لإبداع من نحته ويتناسون المبدع نفسه، الصمت متاهة تجعلكَ تتوه في أحلام يقظةِ الإبداع المبتذل، ببساطة واختصار:
في هذا الوطن حذار من الذهابِ بعيداً في الصمت على المواضيع الحاسمة، في هذا الوطن أنت لست مبدعاً إلا بالقدر الذي تُظهر فيهِ عفويتك في الدفاع عن بلدك أياً كان موقفكَ من نظامهِ السياسي، فالوطن ليس نظاماً سياسياً، وتذكر دائماً بأنك تتعاطى مع شعبٍ ليس لديهِ ما يخسرهُ، هل يوجد عائلة في هذا الوطن لم يتعمد اسمها بصورةٍ لشهيد؟
قل لي ماذا أفادَ إبداعكَ ليُضمد جراحَ الوطن ولو بكلمةٍ، لأقولَ لك من أنت؟ هل فكرتَ يوماً بأن الأوطان كما الآباء يُحزِنهم عقوق أولادهم من فاسدين ومرتشينَ ومرتزقةٍ إرهابيين، لكن ماقد يُبكيهم ويدميهم هو صمتُ أبنائهم الآخرين، فعلامَ كان الصمت؟ من قال إن الصمتَ هو عكس الإبداع؟ هناك من لم يصمت لكنه يبدع إلا إن كانت معاييرَ الإبداع في وجوهِ الصامتين و«محفزاته» تختلف عن غيره، عندها تذكروا بأن العمرَ يمضي سريعاً، والحياة موقف.
في هذا الوطن إياكَ أن تذهبَ إلى مقصلةِ التاريخ بقدميك، تحديداً عندما تضيعُ في متاهةِ المصطلحات التي تبرِّر هذا الصمت، لكن ما هو أسوأ من الوقوع في متاهةِ المصطلحات، الوقوعَ في محرقةِ فهم المصطلح نفسه، فعبارة الحياة موقف ليست أكثر من تنبيهٍ لمَن يتسلحون بما يسمونه «البراغماتية»، هل حقاً علينا أن نكونَ براغماتيين تجاهَ قضايا الوطن؟!
عندما تقرِّر أن تكونَ براغماتياً، عليكَ ألا تخلِط بين الانحناء حتى مرورِ العاصفة، وبين الاختباء في جحورِ الرمادية القميئة بادعاءِ أن لا علاقةَ لك بهذهِ العاصفة، لا أعرف كيف جعلكَ إبداعك تتجاهل هذه الحقائق، فيما البسطاء في هذا البلد علموا ودون «إبداعٍ» بأن البراغماتية في التعاطي مع الأوطان هي الشكل الآخر للخنوع، هي مِحرقةٌ للكرامة، ولكي تتضح الصورة أكثر تعالوا نتخيل هذا المشهد ونصوره بكاميرا «مبدعٍ» ما، في المشهد تبدو زنوبيا في قصرِها وقد وُضعت أصفادَ الحديدِ بيديها، ستسحلها أقدام فرسان روما، أو قد يتم بيعها لمن يظنون أن اللـه لم يهدِ سواهم لكي تكون «ملكةَ أَيمان» أو جارية لديهم، يبدأ مزادَ النهاية والرماديون صامتون، وذريعةَ صمتهم بأن زنوبيا تستحق، صحيح أنها بنت حضارةَ تدمرٍ ودافعت عنها، لكن وبسببها كان هناك أحد القصور التي استخدمها «النظام» يوماً ما كسجنٍ للاعتقال السياسي، هؤلاء لا يفكرون إلا بهذه الطريقة.
عندما يحاولُ «شُذَّاذ الاستثقاف» تعويمَ الرمادية كمنهجٍ، عليهم أن يتذكروا بأن هذا الشعب رفضَ «البراغماتية» بأن تحكمهُ طغمةَ الأخوان المسلمين، تخيل أن من مثلي يكتب ولا يكترث، لأن هناك من استشهد ليجعلني أكتب دفاعاً عن تقديم العقل على النقل، دفاعاً عن تجليات الإبداع في صورة الفن والحضارة والإنسانية لا العودة إلى العصور الوسطى. تخيل أن الفلاح والسائق وعامل البناء فهموا كل هذا فيما لايزال «مبدعونا» في بروجهم العاجية يرون من «البراغماتية» الابتعاد عن حالة الموقف.
لا يزال غروركم يلقي عليهم صفةَ الشعب المغيَّب ولا زلتم بغروركم تهربون من دلف البراغماتية إلى مزراب اللاموقف، حتى تظنونَ أن «إبداعكم» سيحميكم من محاكمةِ التاريخ، وتتجاهلون أن «نعشاً» عن نعشٍ يختلف، وصمتاً عنت فيهِ الوجوه للوطن المكلوم بأبنائهِ يختلف عن صمتٍ كالبناء على الرمال المتحركة.
ببساطةٍ من أشاع بينكم أن البراغماتية هي موقفٌ نسي أن يشرحَ لكم بأنها أشبهَ باحتساءِ كأسٍ من النبيذ، قد يقودكَ للنشوةِ التي تبحث عنها، وقد يقودك لحالة السكر التي تجعل منك أضحوكة، بلا وطنٍ ولا انتماء.
هي المقاربة التي سيثبتها الزمن بين الموت كسقوط أو ارتقاء، بين الإبداع كخلودٍ وانتفاء، في هذا الوطن أياً كنت فسيذكرك التاريخ بخلودٍ وارتقاء فقط من زاوية أين أنت من دماءِ الشهداء؟! وما تبقى من إبداعٍ ضعوهُ في زاويةٍ خاصة في متحفِ المستقبل الذي سيؤرخ لهذا اليوم، واكتبوا عليها:
هنا يرقد ابداعُ الصامتين، أما الصامتون أنفسهم.. فلا جثمانَ لهم ولا وطن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن