قضايا وآراء

عام رحل ولا يستحق إلا النسيان

| بقلم الدكتور قحطان السيوفي

كانت سنة 2020 مُريعة، جلبت معها الموت والاضطراب إلى المجتمعات، إنها السنة التي غيرت العالم كما لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية، ففي غضون 12 شهراً شل فيروس كورونا الاقتصاد واجتاح المجتمعات وحجر نحو أربعة مليارات إنسان في منازلهم، وحصد أرواح أكثر من 1.6 مليون نسمة.
يقول عالم الأوبئة المتخصص بالأمراض المعدية وعميد كلية الصحة العامة في جامعة يال ستين فيرموند: «تجربة الجائحة هذه فريدة في حياة كل شخص على وجه الأرض».
في عام 2020، تشابكت خيوط السياسة الداخلية والسياسة الجغرافية والاقتصاد إلى حد لم نشهده في عقود من الزمن، إذ ينذر ضعف الأداء الاقتصادي وإشكاليات الإدارة الحكومية في قسم كبير من العالم بتحريك حلقة مفرغة، بحيث تؤدي النتائج الاقتصادية العكسية إلى شعبوية في الداخل وقومية شرسة في الخارج، مما يؤدي لتفاقم المشكلات الاقتصادية، في ظل تزايد إجراءات الحماية وتدهور الاستثمار، فالظروف الاقتصادية السيئة تولد ظروفاً سياسة سيئة.
انتاب الرعب العالم، أعلنت منظمة الصحة العالمية كوفيد-19 جائحة، وفي منتصف نيسان كان نصف البشرية يعيش في ظل شكل من أشكال الإغلاق.
باتت أكثر الدول ثراء عاجزة أمام هذا العدو الخفي، وفي الاقتصاد العالمي ظهرت جلية، نتائج النقص المزمن في الاستثمار في المنشآت الصحية التي تجاوز عدد المرضى فيها قدرتها على الاستيعاب، أصبح الحديث عن كارثة مطلقة وليس عن حالة طوارئ.
الشركات تقفل وكذلك المدارس والجامعات وباتت حركة الملاحة الجوية المدنية شبه متوقفة، حلت مؤتمرات الفيديو مكان اجتماعات العمل.
في أيار كانت الجائحة قد تسببت بخسارة 20 مليون شخص لعملهم في الولايات المتحدة، وقد تفاقم التفاوت الاجتماعي، وبات العناق والمصافحة والقبلات مجرد ذكرى وارتفع مستوى العنف الأسري.
راحت الحكومات تتخبط أمام حجم الأزمة وأصبحت الولايات المتحدة التي تتمتع بأكبر اقتصاد عالمي، أكثر الدول تضرراً من الجائحة مع أكثر من 350 ألف حالة وفاة.
يصعب عدم اعتبار سنة 2020 من أسوأ سنوات القرن الحادي والعشرين! وسنة 2020 ستحمل وصمة بأنها سنة مروعة، ويبدو أن هذه السنة سترحّل مشاكلها إلى السنة الحالية وما إن بدأت عمليات التلقيح في أكثر من بلد، حتى ظهرت سلالة جديدة للفيروس.
عملياً كورونا أصابت الاقتصاد العالمي في مقتل، خسائر اقتصادات العالم غير مسبوقة والحساب مفتوح على المزيد، وأكدت الجائحة حاجة الشعوب الملحة إلى حكومات تتسم بالكفاءة والنزاهة وإدارة عقلانية للموارد، وبناء مؤسسات صحية وإنقاذية متطورة، حكومات تستعد للكوارث البيئية ولأي جائحة مقبلة.
انتهت صفحات سنة الجائحة العاتية والركود العالمي وزيادة الفقر والجوع والبطالة وتفاقم الديون، وهذه السنة تضمنت لحظات فارقة ستبقى في الذاكرة.
على الصعيد المالي الاقتصادي والاجتماعي، عانى العالم أجمع من ضائقة خانقة فاقمتها أزمة اللاجئين قبل جائحة كورونا، وأفادت الهيئة المالية الدولية التي تتخذ من واشنطن مقراً، أن الوباء دفع بما بين سبعين إلى مئة مليون شخص إلى الفقر المدقع في 2020 في وقت يواجه الاقتصاد العالمي أسوأ ركود منذ 80 عاماً، وحسب صندوق النقد الدولي تدهورت الأحوال المعيشية لقرابة 90 مليون شخص للعام 2020 لتصل إلى مستوى الحرمان الشديد، موضحاً أن أزمة كورونا أودت بحياة أكثر من مليون شخص حول العالم.
صاغ صندوق النقد الدولي مصطلح «التباطؤ المتزامن» في إشارة إلى المأزق الحالي المتمثل في تباطؤ النمو في 90 بالمئة من الاقتصاد العالمي، مع احتمال زيادة هذا التباطؤ لمستوى أكبر من أي وقت مضى منذ الأزمة المالية، وفي استخدام هذا المصطلح تلطيف لواقع من الركود طويل الأمد الذي أضحى سمة للاقتصاد العالمي.
أزمة المناخ لم تصل بعد إلى خواتيمها السعيدة ولا تزال تشغل العالم رغم كل المؤتمرات التي عقدت 2020 ومحاولات معظم الدول الحثيثة لمعالجتها.
في 2020 العالم انشغل العالم بقضايا أخرى، منها تحديات الاقتصاد المعولَم الذي يُرتب إشكاليات كثيرة على مستوى العلاقات الاقتصادية والدولية.
في 2020 استمر تعاون أهل الظلام والإرهاب مع أهل الظلم، لجعل ما سمي «الربيع العربي» فخاً لإغراق دول عربية في أمواج الوحل والدم، وصمدت الدولة السورية شعبا وجيشاً أمام العقوبات الغربية الظالمة واستمرت مع حلفائها بمحاربة الإرهاب المدعوم من القوى الغربية والإقليمية الداعمة والممولة للإرهاب.
عملياً جاءت أزمات 2020 بتيارات عدة، منها ما أظهر قدرات المجتمعات ونظمها واقتصاداتها على التعامل مع الصدمات واحتوائها فارتبكت دول غنية في تعاملها مع الوباء، على حين صمدت دول أخرى بعضها أقل دخلاً وثراءً، ولكنها كانت أكثر تنظيماً والتزاماً، بالمقابل برزت أنشطة تكنولوجيا المعلومات والرقمنة وحملت لشركاتها أرباحاً غير مسبوقة.
أزمات عام 2020 خلقت أوضاعاً جديدة، من ملامحها المبكرة ما يجعلنا متطلعين إليها باستبشار لا يغفل ضرورة التحوط والحذر في عالم شديد التغير، وجدير بنا النظر إلى المستجدات الخمسة التالية وتطوراتها ونحن نتحسس الخطوات الأولى في عام 2021.
1- أحدث الإعلان عن تطوير لقاحات اطمئناناً لإمكانية السيطرة على الوباء المستشري.
2- إعادة تشكيل معالم العولمة الاقتصادية التي لن تندثر بسبب صدمة «كورونا» وتعطيلها خطوط الإمداد، ولكنها ستعيد النظر في مساراتها؛ وستستمر بمكوناتها الأساسية.
3- تعافٍ غير متوازن للاقتصاد العالمي: بعدما انكمش بنحو 4.4 في المئة جراء الجائحة وما صاحبها من مُربكات للأنشطة الإنتاجية.
4- تراجعت الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ بنحو 7 في المئة، ولكن كأثر جانبي لتعطل جزئي في النشاط الاقتصادي وحركة النقل والسفر.
5- من المتوقع أن تستمر أسعار الفائدة على العملات الرئيسة في مستوياتها المنخفضة لفترة لتعين التعافي الاقتصادي من حالة الركود الراهنة.
في كل الأحوال، مع الإقبال على عام جديد يحسن بنا التفاؤل والحذر لعالم يتغير دائماً، لكن حالة اليأس والإحساس بالعجز في الحرب مع عدو مجهول الوجه والهوية لم تمنع أبطالاً في مختبرات الأبحاث العلمية من السعي وراء الأمل في إنقاذ للبشرية من الكابوس الذي أصابها، من خلال العلم كطريق وحيد لخلاص البشر وتحسين ظروف حياتهم، في مواجهة الأمراض والأوبئة.
كانت سنة ضائعة، سنة يريد كثير من الناس نسيانها لما شهدوه خلالها من أحداث كئيبة، إنها سنة طغت فيها أخبار كورونا على كل ما عداها، وشلت مظاهر الحياة العادية، ليحل نمط جديد من التباعد، عام لن يترك في ذاكرتنا سوى صور الكمامات والمعقمات، وخوفنا من بعضنا البعض ومن تناقل العدوى فيما بيننا.
لا يستحق عام 2020 سوى النسيان والناس يقولون: «تنذكر وما تنعاد».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن