قضايا وآراء

شراء الوقت ترقّباً لمتغير

| عبد المنعم علي عيسى

تقول جغرافيا البلدة أنها تقع على مسافة 55 كم إلى الشمال من مدينة الرقة على الطريق الدولي المعروف بـM4 الذي أكسبها أهمية إستراتيجية استثنائية، وتقول الوقائع إن ميليشيا «قسد» كانت قد أحكمت سيطرتها على عين عيسى منتصف العام 2015 بدعم من قوات «التحالف الدولي» الذي كان قد أعلن حربه على «تنظيم الدولة الإسلامية» قبيل عام من هذا التاريخ الأخير، حيث سيقوم الأميركيون بتأسيس قاعدة دعم لوجستي فيها مطلع العام 2016، كانت هي الأهم لهم في مناطق الشرق السوري، الأمر الذي دفع بمليشيا «قسد»، التي كانت قد تحولت آنذاك إلى ذراع بري لـ«التحالف الدولي» الذي قام أصلا على مشروعية محاربة ذلك التنظيم، إلى إنشاء العديد من المؤسسات والمجالس التابعة لتلك الميليشيا في تلك البلدة، حيث النظرة هنا كانت ترتكز على أن الأخيرة باتت الأكثر أماناً على اعتبار أن الوجود الأميركي فيها كاف لإضفاء تلك الصبغة عليها، وبمرور الوقت راحت البلدة تتخذ صفة «العاصمة الإدارية» لـ«الإدارة الذاتية»، وفيها باتت تعقد أهم الاجتماعات ما بين قياديي هذي الأخيرة وبين ضباط «التحالف الدولي»، وكذا بينهم وبين مسؤولين غربيين كانوا يزورون مناطق شرق الفرات لدواع كانت ظواهرها مختلفة تماماً عما يضمره القائمون بتلك الزيارات، ناهيك عن أن البلدة، وفق قراءة الخرائط، باتت تمثّل نقطة الوصل بين مناطق سيطرة «الإدارة الذاتية» في الرقة وريف حلب، وبين مناطق سيطرتها في الحسكة ودير الزور، هذا الواقع هو الذي فرض التأجيج الحاصل راهناً في عين عيسى والذي تحاول جميع الأطراف المعنية فيه بلورة خياراتها على وقع تطورات الخارج، وأبرزها ما تبقى من أيام الرئيس دونالد ترامب في السلطة، ثم ماهية المتغيرات التي يمكن أن يحملها مجيء الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، لتبني عليها خطواتها التي يمكن أن تذهب إليها، والتي يبدو أن عامل الوقت فيها قد بات ضاغطاً على الجميع باستثناء «قسد» التي تحاول شراء المزيد منه.
ما انفكت التقارير التي ترصد الأوضاع الميدانية في بلدة عين عيسى، تشير منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، إلى ما وصلت إليه البلدة ومحيطها من حالة توتر قصوى، وفي الآن ذاته تشير إلى تحفز تركي للقيام بعمل عسكري يستهدف تغيير الأوضاع القائمة، هذا التوتر كان قد أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة في الثالث من شهر تشرين الثاني الماضي في سياق كلمة ألقاها في افتتاح عدد من المشاريع، وفيها هدد بـ«استئناف العمليات العسكرية والذهاب إلى سورية لتطهيرها من أوكار الإرهابيين»، ومن دون شك فإن فعل كهذا يحتل اليوم أهمية هي الأولى في غرف صناعة القرار السياسي التركي، وما ردع هذا الأخير عن الذهاب نحو تنفيذ ما يعتمل في دواخله هو «الفيتو» الروسي، ومعه حالة «عدم الرضا» الأميركي، إلا أن كلا المانعين يتصف بالوقتية، بمعنى أنهما يشيران إلى حالة قابلة للتغيير تبعاً للظروف المتغيرة بدورها هي الأخرى.
سعت موسكو منذ أسابيع إلى عقد جولات تفاوض ماراتونية مع قادة ميليشيا «قسد» كان الهدف منها هو إقناع هؤلاء بتسليم البلدة للجيش السوري تحاشياً لتكرار سيناريو عفرين عام 2018، وعلى الضفة التركية كان الروس يضغطون لتأجيل الهجوم على البلدة بهدف إفساح المجال للتفاوض، وإيجاد آلية مشتركة بين أطراف الصراع لتجنيب المدينة معارك جديدة، الأمر الذي أثمر في غضون الأيام الأخيرة من العام المنصرم عن توقيع اتفاق بين الروس و«قسد» يقضي بدخول قوات مشتركة روسية سورية إلى البلدة، وهو ما أكده عضو هيئة المصالحة الوطنية عمر رحمون الذي قال إن «قسد» أبلغت الجانب الروسي رسمياً موافقتها على تسليم الصلاحيات الإدارية والعسكرية في عين عيسى إلى الحكومة السورية، والانسحاب منها بشكل كامل، قبيل تأكيده أن الاتفاق قد دخل حيز التنفيذ فعلاً، والأمر نفسه كان قد أكده بيان لنائب القائد العام لقاعدة حميميم اللواء فياتشيسلاف سينيتيك، بل إن بياناً صادراً عن وزارة الدفاع الروسية بتاريخ 27 من شهر كانون الأول الماضي كان قد أكد أن قوات روسية إضافية قد أرسلت، كنتيجة لذلك الاتفاق، بهدف تعزيز الاستقرار في منطقة عين عيسى، لكن مصادر «الإدارة الذاتية» عادت لتقول إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الروس يتضمن فقط تكثيف نقاط تمركز الجيش السوري، وكذا القوات الروسية، في محيط البلدة على أن تبقى حواجز «وحدات الحماية الكردية» هي المسيطرة في داخلها.
تلون الموقف عند «قسد» سببه هو الدخول الأميركي على خط المفاوضات الكردية الروسية، وهذا الأمر ليس تحليلاً بل تؤيده العديد من الوقائع، بل العديد من التقارير التي تشير في مضامينها إلى أن الأميركيين مارسوا ضغوطاً على قادة «قسد» لإقناعهم بعدم تسليم البلدة للجيش السوري، والانتظار لحين تسلم جو بايدن للسلطة في واشنطن، بمعنى أن الطلب الأميركي لـ«قسد» يقول بضرورة المماطلة وتمرير الأيام القليلة الفاصلة عن 20 كانون الثاني المقبل الذي يفترض فيه وصول هذا الأخير للبيت الأبيض، والطلب إياه يحمل بين ثناياه وعوداً بأن التراسيم التي تحملها سياسة بايدن المرتقبة حول ملف شرق الفرات تشير إلى أنه قد يعيد القوات الأميركية إلى عين عيسى ومنبج وعين العرب، بل قد يذهب إلى توسيع الحضور العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات برمتها في سياق سعيه لمنع التمدد الروسي في تلك المناطق.
حتى اليوم، المؤكد أن «قسد» لا تزال متمسكة بمواقعها في عين عيسى، وهي ستظل تماطل وتماطل لتمرير الوقت، لإدراكها أن خسارة عقدة الربط الجغرافي بين مناطق سيطرتها في ريفي الرقة وحلب وبين الحسكة ودير الزور، سيعني هذه المرة تقطيعاً لأوصال مشروعها المتقلص ما بعد محطة عفرين 2018 التي قضت آنذاك على حلم الوصول إلى شواطئ المتوسط عند بلدة السمرا أقصى الشمال من مدينة اللاذقية.
في سياق ممارستها لسياسة شراء الوقت، كانت آخر الطروحات «القسدية» الرامية لكسب المزيد منه هي طرح فكرة «الشريط الحدودي» كتكرار لأسلوب كان قد اعتمد إبان عملية «نبع السلام» التركية خريف العام 2019، والراجح هو أن دمشق كانت قد رفضت الطرح بشكل قاطع وسريع ما قلل من هامش المناورة عند «القسديين» الذين ضاقت أيضاً لديهم فرصة اللعب لكسب الوقت.
فجر يوم الجمعة الأول من شهر كانون الثاني الجاري، تعرضت قاعدة «تل السمن» الروسية في محيط عين عيسى، لتفجير تبناه تنظيم «حراس الدين» العامل في إدلب، وهو الأول من نوعه لذاك التنظيم خارج مناطق عمله السابقة الذكر، ولربما يمكن هنا لحظ البصمات التركية في ذلك التفجير، أقله هذا ما يقوله المنطق، ومعه تلونات السياسة التركية المضغوطة بعامل الوقت، ومن خلال ذلك الفعل يمكن لأنقرة أن تكون قد هدفت إلى إحراج الروس لدفعهم باتجاه إعطاء الضوء الأخضر لعمل عسكري تركي يستهدف بلدة عين عيسى في الأيام الأخيرة من ولاية دونالد ترامب، إذ من المؤكد أن الهجوم على قاعدة تل السمن سوف يؤدي إلى تغيير المعادلات القائمة في البلدة وفي محيطها، بل ربما يؤدي إلى تغيير جذري في الأولويات الروسية.
تتحمل «قسد» اليوم، كما تحملت سابقاً، مسؤولية تعريض التراب الوطني لمخاطر خارجية، وهي ما انفكت تمارس سياسات من شأنها أن تقدم لأنقرة ذرائع للقيام بعمل عسكري تقول إنه يهدف لإبعاد «الإرهابيين» عن حدودها، وهي، أي «قسد»، تسعى إلى شراء الوقت في مواجهة كل تلك المخاطر بسلوك هو أشبه بالمقامرة، على حين أن الواقعية السياسية تقتضي تحولاً في رسم السياسات لتأخذ بعين الاعتبار حقائق الجغرافيا وحقائق التاريخ، حيث القفز فوق تلك الحقائق هو عبث لن يؤدي إلا إلى إضافة المزيد من التعقيد لأزمة هي الأعقد في هذا القرن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن