ثقافة وفن

أين من يخافه شوقي؟!

| إسماعيل مروة

منذ أربعين عاماً قرأت هذه العبارة (لا أخشى على الفصحى إلا من بيرم) التي قالها أمير الشعراء أحمد شوقي، والمعني بها بيرم التونسي الشاعر الغنائي الزجّال المعروف، والذي كتب روائع أم كلثوم التي نشدو بها في كل وقت وحين، سواء كانت مسجلة أم حفلة، وقد قلبت هذه العبارة منذ زمن بعيد على وجوهها كافة لأعرف المراد، فهل هي في معرض مديح أم ذم؟ وهل هي شهادة لبيرم أم عليه، ولم أجد فيها سوى المدح من شوقي الذي لم ينل من أي شاعر في يوم من الأيام، والعبارة كما فهمتها تدل على أن أحمد شوقي يمتدح براعة بيرم، فهو في زجله وعاميته يقدم شعراً من المرتبة العليا، وهو موزون، وعاميته تقارب الفصحى، حتى ليظن السامع والقارئ أن هذا الشعر من الفصيح، والأمثلة كثيرة، فعندما نسمع (القلب يعشق كل جميل) و(هو صحيح الهوى غلاب) يكفي أن نلفظها محرّكة لتكون فصيحة ومن الشعر الفصيح، ولا يميل بها إلى الدارج والعامي سوى النطق للقارئ أو المغني! والخشية هنا ليست سلبية، وإنما خشية من تفوق بيرم، ومن خبرته، ومن حرصه على العامية الراقية التي تقترب من الفصحى، وتكاد تكون هي، بل في مواضع عديدة نجزم بأنها الفصحى، وخشية شوقي تنبع من الوهم الجميل الذي قد يزرعه بيرم في المتلقي برقي عبارته ولفظه.
في ذلك الوقت لم نكن بحاجة لدعوة إلى رفع مستوى الأغنية، ولم تكن الأغنية بحاجة إلى رسول يقربها من النفوس، بل إن هذه الأغنيات التي صاغها بيرم التونسي أسهمت إسهاماً كبيراً في رفع الذائقة اللغوية والتذوقية لدى المتلقي، وأسهمت في تحسين لفظه ونطقه ومخارج الحروف، ولم يقف الأمر عند بيرم، فجميع كتاب الأغنية في مصر والعالم العربي من صلاح جاهين إلى عمر حلبي نهجوا نهج بيرم التونسي، وارتقوا بالعامية، فلم ينزلوا بمستواها، ولم يحتاجوا إلى التقعر اللغوي الذي ينفّر السامع، وقد يذكر القارئ الكريم أن الأغنيات الفصيحة، القصائد التي اختارها المطربون المتذوقون كانت من مستويات مختلفة، وهي مغناة وحدها، مثل أغداً ألقاك، هذه ليلتي، رسالة من تحت الماء، ماذا أقول له؟ فلم يبحثوا عن القصيدة الصعبة التي من العسير حفظها وتردادها في كل لحظة.
هذه الخشية، وهذه الحركة الدؤوبة في البحث عن العبارة اللائقة واللفظة المناسبة هي التي ارتقت بالأغنية، قصيدة وزجلاً، وهي التي أسعدتنا بالمطولات من القصائد التي كان يرددها الصغار قبل الكبار في كل يوم ولحظة، لم نكن بحاجة لدعوة ترقية للأغنية وكلماتها، فقد كان التنافس على أشده في الوصول إلى الرقي والصورة، بل أذهب أبعد من ذلك، فأغنية القلب يعشق كل جميل، وهي أغنية تحمل مدلولات دينية في كلماتها، حوّلتها صوفية بيرم إلى أغنية روحانية يرددها جميع الناس وجميع المطربين، لأنه استطاع أن يخرجها من نظرة خاصة لتصبح عامة لكل شريعة، وإذا ما نظرنا اليوم إلى الأغنية الدينية نكتشف الهوة والمسافة والبعد، فالإطار العام ضيق، واللفظ محدود، بل في مناسبات محددة! كم كان أولئك من الكبار، ففيلم سلامة يسميه الكبار في السن فيلم الحج، وفيه على بلد المحبوب، وغني لي وروائع بيرم التي جعلت المحبوب مطلقاً! فالأمر لا يقتصر على اللغة والفصحى، بل يتعدى ليصل إلى التفكير ورحابة الفكر، وعمق المدلول، والإحساس بالآخر الذي أعيش معه.
اللغة اليوم في الغناء أقل من عامية، وأدنى من الدرك الأسفل في العامية والإسفاف، والأغنية الدينية والتراتيل والشعر الديني لم يعد ينشد المطلق، الله، وإنما صار في عمق تعزيز الفكر الفئوي والتقسيمي والانعزالي، بل يدعو إلى مزيد من الكره والحقد.. فبعد تبارك الرحمن، ويا رب لعبد الحليم وتأملاته، تحولت النداءات إلى نداءات ضيقة لا يتشارك فيها أبناء الشريعة الواحدة!
لو عدنا وقرأنا لنجت لغتنا، ولما احتجنا لأي نوع من اللجان، ولو تمعنا لتحولنا إلى مجتمع متآلف يحكمه الحب والود.
خشية شوقي كانت في مكانها من كل ناحية، وبلد المحبوب، حوّله بيرم من النبي المحبوب إلى حالة من الوجد الصوفي المطلق، ولكل محبوبته، ولكل عيده وليلة عيده، وهل ننسى براعته في الليلة عيد عالدنيا سعيد، على الدنيا كل الدنيا، وليس لأحد دون أحد.
وبيرم كان جديراً بأن يغار منه شوقي ليضع شعره بين أيدي المطربين الكبار ليكسب شيئاً من السيرورة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن