قضايا وآراء

القدوة والملهم

| بقلم د. بسام أبو عبد الله

سبق أن كتبت عن هذا الموضوع في صحيفة «الوطن»، وقد عدت إليه لأسباب كثيرة منها ما أثير مؤخراً عبر صفحات التواصل الاجتماعي من محاولات بعضهم الاصطياد بالماء العكر لإثارة الرأي العام ضد أي قضية ولو كانت الموت، ولو كانت حادثاً عابراً يحدث في كل مدن العالم، ما يجعلنا مضطرين لتوضيح بعض المفاهيم والمصطلحات التي يعمل الخارج على التضليل فيها، وأخذ الرأي العام السوري باتجاهات تخلط بين الوطني والشخصي، بين ما يجمع وما يفرق، في هذه الظروف القاسية جداً التي يمر بها بلدنا وشعبنا.
بالنسبة لي، وهذا رأي شخصي لا يلزم أحداً، القدوة حسب التعريف في معاجم اللغة هو: من يقتدى به، هو من يتخذه الناس مثلاً لحياتهم، وبالتالي فإن مفهوم «القدوة» لابد أن يعمم ويسلط الضوء عليه ويكون نبراساً للأجيال القادمة، إذ إن هذه الحرب الفاشية على بلدنا وشعبنا أفرزت نماذج وقدوات حسنة يفترض بالدراما والكتاب والمثقفين أن يسلطوا الضوء عليها باعتبارها نماذج حيّة تعيش بيننا، وتتنفس الهواء الذي نتنفسه، وتعيش آلام الحصار الإجرامي ضدنا، وتدافع معنا عن بقائنا ووجودنا، لا بل إن هناك من هو أكثر أهمية منا لأنه قدم حياته فداءً لوطنه، ودفاعاً عن وجوده، وهؤلاء هم القدوة والملهم بالنسبة لي، وليس أي أحد آخر صُنعَ في أحضان البترودولار، أو في فنادق «الخمس نجوم» ليشتم بلده، ويتآمر على شعبه، وينظّر علينا بالديمقراطية والحرية والتقدم والتنمية، إذ إنني لا أستطيع أن أفهم أن مثقفاً أو فناناً أو أكاديمياً يتحدث عن تقدم بلده وحريته وهو يجلس في حضن شيخ لم يعرف في حياته معنى الحرية والديمقراطية ويرضع من ثدي الغاز والنفط، ويعيش في فنادق فخمة وسيارات فارهة، ثم يخرج علينا بكل بلادة وغباء ليتحدث لنا عن مستقبلنا، ومخارج حلولنا، وأسباب مآسينا، وعن القيم والمبادئ والإخلاص والوفاء الوطني، أي قدوة هذا؟ وأي ملهم هذا؟
القدوة، والملهم بالنسبة لي، وأكرر هذا الكلام ليس ملزماً لأحد، هو ذاك الذي كان يقاتل ويستشهد ويجرح على أطراف مطار دير الزور، وفي كويرس، وفي سجن حلب المركزي، وعلى أطراف إدلب وفي صحراء تدمر، وفي حصار حلب، وعلى أطراف دمشق والسويداء، والرقة، وفي كل مكان في هذا الوطن، يهزم القتلة والمجرمين، يهزم الإرهاب والتكفيريين، يهزم مشروعات باتت علنية ومكشوفة ومفضوحة، لا علاقة لها بالموالاة والمعارضة، ولا علاقة لها بالتنظير والرمادية، ولا علاقة لها بالديمقراطية والحرية، بل لها علاقة بقضية واحدة هي قطع أنفاس سورية، وإنهاء دورها ورسالتها، لها علاقة بكتم أنفاسنا ومنع صوتنا من الوصول لأحد، لها علاقة بتاريخنا وانتمائنا، بهويتنا، باجتثاثنا من جذورنا.
في هذه الملحمة السورية الكبرى التي لم تنتهِ بعد الملهم والقدوة بالنسبة لي هم الشهداء وأسرهم، هؤلاء هم المقدس عندي، والجرحى وآلامهم، وهؤلاء هم المقدس عندي، ورجال الدين الإسلامي والمسيحي الذين قاتلوا بالكلمة والإرادة والتوعية، وأساتذة المدارس والجامعات، وعمال المصانع والكهرباء والنفط والمياه، ورجال الشرطة والأمن، والإعلاميون الذين سخّروا قلمهم لصد الهجوم الغوغائي على بلدهم، والأطباء والممرضون الذين سهروا الليالي على جرحاهم ومرضاهم تحت القصف والقتل والتدمير، الصناعيون والتجار الذين يتحدون ظروف الحصار لتبقى دورة الحياة الاقتصادية قائمة، الفلاحون الذين يزرعون في ظل حصار خانق حتى على السماد، وفي حرائق متنقلة لتقتل أسباب الحياة والصمود لدينا، الملهم بالنسبة لي هي أم الشهيد، وزوجة الشهيد، وأبناء الشهيد، وأمهات الجرحى، وأبناؤهم، وأسرهم، الملهم لي هي تلك الأم العظيمة التي حولت من ابنتها الشابة التي فقدت بصرها جراء عمل إرهابي إجرامي إلى إنسان معطاء تتقن لغة أجنبية، وتكتب الأدب والشعر، تلك التي كانت تحبس دموعها بعيداً عن ابنتها، القدوة والملهم لي هو هذا الجيش العظيم الذي ما هانت إرادته ولا ضعف، ولا توقف عن تقديم قوافل الشهداء والجرحى لتحرير آخر شبر من الأرض السورية، القدوة والملهم لي هم أولئك الذين ضحوا بصمت من دون أن تعرفهم الكاميرا، ولا الشهرة ولا الصحافة، الذين قدموا التضحيات بصمت وبحزن مهيب، وبرأس مرفوع، وما أكثرهم في وطني، الذين يرفضون مس كرامتهم، وكرامة وطنهم، والذين لن يكسرهم جبروت، وطغيان الأعداء، ولا فجور بعض أمراء الحرب وقذارتهم.
ما أكثر النماذج والقدوات والملهمين في وطني، وما أكثر القصص التي يجب أن تقدم للأجيال القادمة لتعلمهم أن الوطن عطاء وتضحية، وأن الوطن ليس حقيبة سفر مهما جار الزمن علينا، وأنه ليس فندقاً نغادره عندما تقل خدماته، وأنه مكان لنعارض بشرف، وننتقد بشرف، ولكن في حضنه الدافئ وحاراته وأحيائه، وبين ناسه وكباره وصغاره.
القدوة والملهم لي بالتأكيد أيضاً ليس ذلك الذي يجلس في أحضان شعبه ووطنه، ويجمع الثروات على حساب دماء الناس ثم يخطب فينا ليعطينا دروساً بالوطنية، وهو يساوي تماماً ذلك الذي جلس في قعر بئر النفط يغرف المال وينظّر علينا.
أعتقد أنه آن الأوان لنتوقف قليلاً مع أنفسنا ونتطلع حولنا بإمعان ودقة، كي نكتشف كم هو عظيم هذا الشعب، وكم فيه من القديسين المنسيين، ومن المضحين بصمت، ومن الصالحين، وهؤلاء هم سر بقاء هذا البلد شامخاً أبياً لن تكسره محاولات التدمير على قساوتها، ولا محاولات التجويع على قذارتها.
التفتوا حولكم، انظروا في الشارع في الزقاق، في الريف وفي المدينة، في وجوه الناس الحزينة ولكن الأبية، لتروا عشرات الآلاف من النماذج القدوة والملهمة، لتعرفوا سر صمودنا وبقائنا عشر سنوات من الإرهاب والقتل والتدمير والتشريد والحصار والجوع والألم والعطش، التي لن تكسرنا بإذن الله.
هنا تجدون القدوة والملهم في مصانعنا ومعاملنا ومزارعنا وبيوتنا وأزقتنا، وما على المشتغلين في الثقافة والفن والدراما والكتابة والأدب، إلا أن يبحثوا ويفتشوا ليجدوا آلاف النماذج التي من واجبنا أن نقدمها لنتعلم منها معنى التضحية والفداء والعطاء من دون أن نسمح للآخرين بأن يخترعوا لأجيالنا القادمة نماذج مصنعة بمال ملوث وبشعارات فارغة وصور باهتة لا تنتمي لنا ولا ننتمي لها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن