ثقافة وفن

قتل التنوير (1)

| إسماعيل مروة

لا تقتصر عملية القتل على القتل المادي، وقد يكون القتل المادي أسهل أنواع القتل بالنسبة للأمم والحضارات، وليس للأفراد، ويقتصر القتل المادي في ضرره على الأفراد، أما القتل المعنوي فهو الأكثر بشاعة وخطورة على المستوى الوطني والقومي والحضاري.
وإذا ما نظرنا في العالم حولنا نجد أن النهضة الحضارية والعلمية والنقدية قامت من خلال احتضان التنوير، فهذا شاعر عظيم، في حياته الكثير من الثغرات والتصرفات التي تصل إلى الشذوذ، لكن النظر كان إلى نصه وقصيدته ونقده ومنجزه، وهذا وهذا، وآخر ينتمي إلى شريعة محددة لم ينظر إليها، وإنما تم النظر إلى نظرياته، وترك جانباً ما يعتقده لأنه شأن شخصي من تشيللي وإليوت وإنشتاين وأديسون وشكسبير.
وعلى الرغم مما قيل حول إنشتاين بقيت نسبيته، وكل ما تم تأليفه وتوليفه حول شكسبير وأصالة مسرحياته، ووجود أكثر من شخص وراء هذا المنجز، فإن الثقافة المسرحية والنقدية بقيت عند عظمة عطيل وهاملت والملك لير وروميو وجولييت، ولو رجعنا إلى الدراسات النقدية حول هذا الكاتب العظيم، فإنها تركز على النص وما يحتويه.. ودستوفسكي تناول النقاد مشكلاته النفسية، ولكنهم اهتموا بنقد أعماله ودراستها، فغدا سيد الرواية من الجريمة والعقاب إلى الأبله إلى المقامر، ولم يقف لتحليل قضاياه الخاصة كما وقف نقادنا العرب!! وتولستوي الذي جاء من البورجوازية الروسية التي كانت مكروهة، وانحاز إلى الفقراء والفلاحين وكتب آنا كارنينا والحرب والسلم والبعث والروائع الكثيرة، لم نجد في النقد الروسي والعالمي من يتصدى له، ويتهمه بالنفاق والكذب، وأنه فعل ذلك استشعاراً بقدوم موجة الاشتراكية، وأظن أن دارسي الأدب الروسي من العرب تناولوا مشكلة بورجوازيته أكثر من النقاد الروس والغربيين، الذين وقفوا أمام منجزه الروائي العظيم وتعاملوا مع نصه وحسب، دون محاولة حياكة القصص والأحاديث التي تهشّم هذا المنجز الذي لم يعد منجزاً له، وإنما صار منجزاً روسياً وعالمياً.
والأمر كذلك مع همنغواي وطاغور وديكنز وهوغو، فهمنغواي الذي صنع الشيخ الذي انتصر على البحر والطبيعة، قضى منتحراً حين أنهى حياته، وكل ما فعله النقاد أنهم ذكروا القصة، وبعضهم قال: إن همنغواي وصل إلى اللا جدوى وإلى العبثية في الحياة، ولم يعد يجد شيئاً له قيمة لذلك أنهى حياته بنفسه فكان بطلاً، وفي الدراسات النقدية العربية يتركون كل شيء ليتناولوا أمراضه وعقده التي أدت إلى الانتحار.
الأمر طبيعي جداً، ففي ثقافتنا تنتشر فكرة المحاسبة من أعلى مستوى إلى كل فروع الثقافة والعلم، فنحن نحاسب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وطه حسين وأحمد زويل، وندخلهم مرتبة الخيانة بامتياز والعمالة مع مرتبة الشرف، وندخلهم النار في الآخرة.. علماً أن كثيرين منا لم يقرؤوا نصاً لأحدهم، وبعضهم لو قرأ لن يصل إلى جوهره..
رفاعة الطهطاوي الأزهري المبتعث إلى باريس بقي محط تقدير إلى أن عاد وجاء برحلته النقدية التنويرية، عندها صار تابعاً للغرب ولا قيمة له!
محمد عبده تنويري إصلاحي، وحين أراد لنا فهماً جديداً صار عميلاً ومرتبطاً وماسونياً وما أدراك! هبْ أن هؤلاء كذلك، فما ذنب حضارتنا وواقعنا في ألا يستفيد من تجاربهم وكتبهم ودراستهم، أليس أجدى من البحث في خفايا، وربما التأليف عليهم وعنهم، وإسباغ كل أنواع التهم العقدية والأخلاقية والقومية والإنسانية؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن