قضايا وآراء

من صدام حسين إلى دونالد ترامب: دروسٌ وعِبر.. وفلسفة الحقيقة

| فرنسا- فراس عزيز ديب

في الحياة قد يكون البحث عن الحقيقةِ هوَ هدفاً للفلسفة، أما في السياسة فإن التعاطي مع الحقيقة هي فلسفة، قد تأخذنا ببساطةٍ إلى خياراتٍ متشعبة كالتأويل أو الجزم، لكن يبقى أهمها على الإطلاق إدارة واستثمار الحقيقة.
ثلاثة عقودٍ مرَّت حتى اعترفَ العدو بجزءٍ من الحقيقة، فالصواريخ التي أطلقها الرئيس الراحل صدام حُسين خلال حرب الخليج الأولى لم تكن مجردَ صواريخٍ للاستعراض الصوتي كما حُكي يومها، ولم تكن فقاعاتٍ لكسبِ الرأي العام العربي، الصواريخ قتلَت أكثر من سبعينَ إسرائيلياً وأحدثت الخراب بمئاتِ الوحدات السكنية والبنى التحتية، يومها استطاع العدو فعلياً إدارة هذه الحقيقة، ليبقى السؤال الجوهري: ماذا لو تحدث التاريخ يوماً بما هو أبعدَ من ذلك، ماذا لو أثبت التاريخ يوماً أن الجيش العراقي لم يقمع ثورة شعبية بل إن الربيع العربي الدموي ومجيء العملاء على ظهرِ الدبابات الأميركية كان قد بدأ منذ ذلك الوقت؟ ماذا لو قال لنا التاريخ يوماً بأن نبحث في مكانٍ آخر عمن ارتكب مجزرةَ حلبجة؟
لا أقول هذا الكلام إعجاباً مني بشخصيةِ صدام، لكن هذا المثال بات مهماً لفهم آلية التعاطي مع الحقيقة عبر الإخفاء، أو عبرَ الإعلان، وقد تتجسد إدارة فلسفة الحقيقة بثلاثةِ أحداثٍ متباعدة:
أولاً: تدمير الجمهوريات
ترافق اندحار الاحتلال العثماني عن المنطقةِ العربية وبداية تشكُّل الدول والجمهوريات بشكلها الحالي مع نشوء الكيان الصهيوني، ففي الوقت الذي كانت فيهِ الجمهوريات الفاعلة تُقاتل للنهوض بدولها وصولاً لمرحلةِ الاستقلال، كان عليها في الوقت ذاته التفكير بآلية المواجهة مع الكيان الصهيوني التي امتدت لثلاثةِ حروبٍ. نجحت سورية بتجاوز مرحلةِ الانقلابات لتبدأ بنموذج الدولة المتكاملة مع وصول حزب البعث إلى السلطة وإقرار دستور العام 1972، كذلك الأمر نجحت مصر عبد الناصر وصولاً إلى العراق وليبيا فالجزائر. لم يكن تجمع المشيخات يشكِّل هاجساً للقائمينَ على المشروع الصهيوني، الهاجس الأول والأخير كان بالجمهوريات.
أما بما يتعلق بالجمهوريات نفسها فإن خوفها من بعضِ المنغصات خارج السياق العام للصراع مع العدو الإسرائيلي كان مبرراً، فسورية مثلاً كانت متوجسة من فكرةِ ارتفاع المد المتطرف، وهي عانَتْ منهُ رسمياً خلالَ ثمانينيات القرن الماضي عبرَ جرائم عصابة الإخوان المسلمين ضد المدنيين الأبرياء وما حُكي عن تورطٍ عراقي في هذه الأحداث. في الوقت ذاته كان العراق يتوجس من جارتهِ الشرقية وما حكي يومها عن «تهديدٍ مبطَّن باستكمال الثورة»، وهل حقاً هناك من يعرف ماهية حقيقة بدء الحرب العراقية الإيرانية؟!
ليبيا معمر القذافي خرجت من الصراع عملياً حتى ما قبل مهاجمتها بالطائرات الأميركية في العام 1986، هذا الخروج تم عبر الاستثمار بحقيقية اختطاف رجل الدين اللبناني موسى الصدر، هنا لا بد من تأكيد فكرةِ أن قضية موسى الصدر لا تخص جهة بعينها، لكنها تخص كل الأحرار الذين يؤمنون بالمقاومةِ نهجاً، لكننا ببساطةٍ أمام حقيقةٍ جوهرية: مات القذافي وقام الناتو بكشفِ كل أسراره ولم يتم اكتشاف خيطٍ عن تورطهِ في القضية، ألم يحن الوقت للتفكير بطريقةٍ مختلفة؟
هذه المراجعة لا تبدو بشكلها نقداً للاستسلام لما نظنه حقيقة، على العكس هي تعاطَت يومها مع وقائع، لكن علينا التركيز على إدارة واستثمار العدو لهذهِ الوقائع وتحويلها إلى موادّ عزلت العراق عن سورية وعزلت إيران عن عمقها العربي والإسلامي وعزلت ليبيا عن فكرة المشاركة في دعم النهج المقاوم والنتيجة ما هي؟ ما زلنا نبحث عن الحقيقة!
ثانياً: على الإعلام الرسمي أن يكذب.
في الإطار العام يبدو الإعلام الرسمي أمام مهمة مزدوجة، الأولى هي ملاحقة المشاكل الداخلية للمواطنين وتغطيتها، تغطية يجب ألا يتخللها أي رتوشٍ أو تبييض صفحةٍ أو تحول الإعلام للترويج لهذا المسؤول أو ذاك، عليهِ أن يكون صوتَ المواطن لا صوتَ المسؤول، وعلينا الاعتراف هنا بأن إعلامنا الرسمي أخفق ولا يزال في هذهِ المهمة.
أما المهمة الثانية فهي مرتبطة بآليةِ إدارة المعركة الكبرى والمواجهة، هنا ليسَ مطلوباً من الإعلام أن يكون صوتَ أحد إلا الصوت الذي يخدم حيثيات المعركة، هنا لا مكان للعواطف، حتى العبارة التي يسخر منها الجميع «لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة»، قد نعترف بأن بعض العقول الخشبية أساءَت لهذه العبارة عبرَ جعلها شماعة للفشل على المستوى الداخلي، لكن الحقيقة هي ما تقوله هذه العبارة، حتى الكيان الصهيوني الذي يستشهد بعض الليبراليين الجدد بشفافيته طبَّقَ العبارة بحرفيتها عندما أخفى الحقيقة لثلاثةِ عقود، لكن القصة لم تنته هنا، تعالوا لنستثمرَ بهذه الحقيقة:
قبل عامين خرجَ الرئيس بشار الأسد ليردّ على سؤالٍ لصحفي حول عدم الرد السوري على الاعتداءات الإسرائيلية بالقول: نحن نرد، وهم يعلمون بأننا نرد، هذا التصريح افترضَ فيهِ البعض يومها نوعاً من المبالغة، ظناً منهم بأن شفافية الصهاينة تجعلهم يعترفون بالخسائر، وتجاهل هؤلاء أن المشكلة لا تبدو بتصريحات من اعترفَ بالرد، المشكلة بمن لا يجرؤ على مصارحةِ «شعبه» بحجم الخسائر التي نتجت عن هذا الرد، إلا أنه كان علينا انتظار العقود القادمة لتنجلي الحقيقة، وقتها قد لا يبقى هذا الكيان حتى يعترف أساساً بخسائره.
ثالثاً: التاريخ لا يعترِف بالثائر المنهزم
منذ الهزيمة الانتخابية التي لحِقَت بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، تحوّل الرجل بتصريحاتهِ ومنشوراتهِ على مواقعِ التواصل الاجتماعي إلى مادةٍ للسخرية، اللافت كان رد فعل العرب على ما يجري، ومعظمهم شمتوا بدونالد ترامب وكأنه هو من دمر ليبيا واحتل العراق واستجلب قوات الاحتلال إلى سورية، ويباركون تصريحات بايدن الذي كان هو وطغمته الديمقراطية أساسَ اشتعال هذا الشرق البائس. هنا قد نبدو أمام درسٍ في خطرِ مواجهة الحقيقة، فترامب كان واضحاً لكنه كما كثر في هذا العالم كان ضحية للحقيقة، ترامب لم يع أن مواجهةَ الدولة العميقة المتجذرة في الولايات المتحدة تتطلب الكثير من الزمن، والمؤسف أن الجميع يتجاهل أن الرجل حصل على ما يقارب السبعين مليون صوتاً، فهل هذا الكلام يعني أن حراكاً ما بدأ فعلياً في الولايات المتحدة ولا يبدو بأنه سيتراجع؟
الفكرة بسيطة، في العراق سعى القادمون عبر الدبابات الأميركية إلى قانون اجتثاث البعث أكثر من سعيهم لحماية الأبرياء، في أميركا اليوم هناك سعي لاجتثاثِ الحالة الترامبية، هل حقاً هناك من يصدق بأنهم يريدون عزله بسبب الأيام العشرة المتبقية؟ هناك ما هو أهم من العزل: منعه من الترشح لأي منصبٍ قادم! لماذا يخافون من ترشحهِ؟ هل حقاً أن التساؤلات حول صحة الرئيس المنتخب جو بايدن تجعل الأميركيين بحالةِ ترقبٍ إن كان سيكمل ولايتهِ أم لا؟
في الخلاصة: لا أحد يستطيع القول بأنه يحتكر معرفة الحقيقة، لكننا حكماً سنرفع القبعة لكل من يتمكن من الاستثمار بالحقيقة بعيداً عن التأويل المبني على العاطفة بل عبر المحاكمة المبنية على المصالح، مواجهة الحقيقة في الكثيرِ من الأحيان يحملُ ضرراً أقلَّ بكثيرٍ من تجاهلها، عندها سنتمكن من الاستثمار بما يجعلنا نعيد تشكيل أولوياتنا في هذا الشرق البائس، ألم يقل أحدهم يوماً: علمتني الحقيقة أن أكرهها فما استطعت؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن