قضايا وآراء

انتخابات الرئاسة في موعدها

| عبد المنعم علي عيسى

شهد، ولا يزال، استحقاق الانتخابات الرئاسية السورية المقرر إجراؤها خلال الأشهر القليلة المقبلة، استقطاباً واضحاً، جهدت العديد من القوى الإقليمية والدولية نحو رمي ثقلها فيه، والمؤكد هو أن في الأمر ما يدعو إليه، إذ لطالما شكل هذا الحدث الأخير «بيضة قبان» لا يمكن الاستغناء عنها لتحديد أثقال المكاسب في الصراع الدائر في سورية، وعليها، منذ ما يقرب من السنوات العشر.
مسبقاً أدركت دمشق ومعسكر حلفائها الذي يضم روسيا والصين وإيران، أن محاولات ربط الانتخابات الرئاسية و«مشروعيتها»، باختراق يجب أن يتحقق على سكة «اللجنة الدستورية» كأن يتم التوصل إلى دستور جديد، أو تعديل يحصل على دستور العام 2012، لكي تجري على أساس أي منهما تلك الانتخابات، هذا الربط وحده يمثل دليلاً على محاولة الأميركيين والغرب عموماً، وكذا دول إقليمية عدة على رأسها دول الخليج التي أعلنت في قمة «العلا» المنعقدة مؤخراً تكرار «ثوابت الغرب» تجاه تلك المسألة، على محاولة الإمساك بأوراق بعثرتها رياح عدة كتلك التي هبت على حلب أواخر العام 2016، ونظيرتيها اللتين هبتا على درعا والغوطة صيف العام 2018، وصولاً إلى رياح العام الماضي التي اجتاحت جزئياً بعض أرياف حماة وإدلب، وهي في مجملها كانت قد ذرت، أو هي شتتت، أوراق جرى تجميعها على امتداد نصف عقد سابق، ومعها ضاعت جهود وصرفت مليارات، بل وسقطت رهانات كان من المستحيل توقع سقوطها لأنها ببساطة كانت تستمد مشروعيتها عند الكثيرين من «لاعب السيرك» الأميركي القادر دائماً على اجتراح المعجزات، وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه.
يدرك المراهنون ولا شك على خيار الربط آنف الذكر أنه من المستحيل التوصل إلى إنجاز دستور جديد للبلاد في ظل فترة باتت تفصلنا عنها أقل من أشهر قليلة عن موعد ذلك الاستحقاق، أو حتى تعديل الدستور الراهن الذي لا يبدو أمراً متاحاً أيضاً، لأن كلا الفعلين هو أشبه بحل مسألة رياضية تعددت المجاهيل فيها ولم يعد بالإمكان إيجاد حلول لها ما لم يذهب «الأستاذ» إلى طرح المسألة بشكل آخر يقل فيه عدد المجاهيل لتصبح قابلة للحل، فالمسألة بالغة التعقيد ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى اختراق يفضي للحل في مرحلة زمنية قصيرة، أو حتى محددة، والمؤكد أن وصولاً كهذا سوف يحتاج إلى تمرحلات متتالية هي غاية في التعقيد تتناسب وزخم الأحداث الطاغي على الأزمة ببعديها الداخلي والخارجي مع لحظ أن هذا الأخير منقسم إلى شقين إقليمي عاودت محاولاته في الآونة الأخيرة للعب دور نشط بعد أن كانت تلك الأدوار قد تلاشت لمصلحة صعود الدور الدولي الذي احتل المشهد بشكل واضح بدءاً من العام 2014 بعدما شهد ربيع هذا العام الأخير تأسيس «التحالف الدولي» ضد «تنظيم الدولة الإسلامية» والعام 2015 الذي شهد خريفه «عاصفة السوخوي».
من الضروري هنا الإشارة إلى أن تأكيد كل الأطراف الداخلة في الصراع السوري على أن «حل الأزمة السورية يجب أن يكون حلاً سورياً» يكاد يكون بلا مضمون، فالكل في الممارسة يناقض أقواله تلك، والوصول إلى تسوية سياسية مفترضة عبر جنيف مرتبط بأهداف دولية وإقليمية لدول تتعارض مصالحها، وتتباين رؤاها تجاه تلك التسوية، وهذا وحده كاف لأن يضع «ألف عصا» في دواليب «اللجنة الدستورية» وهي تحبو على سكة الحل، ولذا فإن ربط مصير الانتخابات الرئاسية بما يمكن أن تنجزه هذي الأخيرة سيكون أمراً من شأنه تقويض استقرار الدولة السورية، وإضعاف مؤسساتها التي أتعبتها الحرب بالتأكيد، وهذا هو ما أكده فعلاً نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فرشينين قبل أيام في تصريح يحمل هذا المعنى.
في المقلب الغربي يبدو الأداء الذي تمارسه دوله بقيادة أميركية، مرتبكاً، فواشنطن من جهة تسوق منذ الآن إلى «لا شرعية» للانتخابات السورية المقررة الصيف المقبل، لكن من جهة أخرى تبدو وكأنها اختارت التأثير في ذلك المعترك، وأصابعها ليست ببعيدة عن القرار الذي اتخذه «الائتلاف السوري المعارض» قبيل نحو شهرين عندما أعلن عن تشكيل «اللجنة العليا للانتخابات»، والقرار يعني بوضوح جر الأحداث نحو مآلات تبدو ضرورية للتشويش على تلك الانتخابات، حيث من الممكن في ظل هكذا مناخات الذهاب نحو الاستثمار للطعن في مشروعيتها، والنقطة الحساسة، والأشد تأثيراً هنا، ستكون في مطالبة المعارضة الخارجية بإنشاء لجان انتخابية في بلدان اللجوء مثل تركيا والأردن ولبنان، وبلدان أخرى تحوي لاجئين سوريين بأعداد أقل، ولربما يبدو ذلك المطلب طبيعيا عند الكثيرين، بل وأقل من طبيعي أيضاً، لأنه متبع بالنسبة لأغلبية الدول التي تنشئ قبيل الانتخابات صناديق اقتراع لمغتربيها في الخارج، إلا أن الأمر مختلف في حالته السورية، انطلاقاً من اعتبارات عدة قد يكون من المتعذر عرض أغلبها لحساسيات من الصعب مناقشتها هنا، ولربما يكون ذلك ممكناً فقط في خطاب يمكن أن يوجه إلى «الخاصة» أو «خاصة الخاصة» التي تدرك حقائق من الصعب على العامة معرفتها، أو هي تداخلت الصور عندها بعد أن تعرضت لتجييش إعلامي غير مسبوق منذ عهد «غوبلز» وزير دعاية هتلر إبان الحرب العالمية الثانية.
على ضفة الحلفاء، كان الروس سباقين للقول «إنه لا جدول زمنياً محدداً لعمل اللجنة الدستورية»، وأن «لا رابط يجمع بين الانتخابات الرئاسية واللجنة الدستورية»، والسبق هذا وحده مؤشر على افتراق روسي مع الغرب، وهو يضاف إلى سلة مفترقات بين الاثنين تكاد تكون ملأى بالكثير منها فيما يخص الأزمة السورية، ولم يكن متوقعاً، ولا هو واقعي، أن يهادن الغرب استحقاقاً بحجم الاستحقاق السوري الذي سيكون على موعد حسمه خلال شهور، بل لعل من المؤكد أن من غير الطبيعي أن يأتي موقف الغرب على عكس ما جاء عليه، لكن من المؤكد أيضاً أن كل هذا الضجيج الحاصل لن يثني الحكومة السورية عن إنجاز استحقاق هو الأهم في مسيرة من شأنها أن تزيد من رسوخ مؤسساتها، بعيداً عن انتظار مخرجات جنيف التي ستطول، والتي من الصعب رؤية نجاح قريب لجهود المبعوث الأممي غير بيدرسون كما يأمل، فالنوايا الحسنة لا تصنع في الأغلب نجاحات في السياسة، نقول هذا على الرغم من أن الأخير يبدو متميزاً في أدائه الذي ظهر فيه أكثر إلماماً بتفاصيل الأزمة من أسلافه الذين سبقوه.
تستند الحكومة السورية بالدرجة الأولى في مضيها ذاك، إلى ذات جماعية مؤمنة بالاستقرار، وهي تبدي توقاً إليه بكل جوارحها، ونزعتها نحوه كانت طاغية حتى في أوج استعار النار التي أصاب لهيبها كل نسجها، ولربما كان أخطر ما أصاب فيها هو نسيجها الثقافي، الذي برزت فيه تلونات هجينة لا شك أنها ستكون عابرة، ولن يطول الوقت حتى تستعيد تلك الذات حيويتها ونشاطها من جديد، فعشرة آلاف سنة من الحضارة لا تمحوها عشر سنين من الحرب مهما اشتد عتيها، والتاريخ يقول إن الشعوب لا تفنى بالحروب أو الأزمات مهما طال أمدها، ومهما ترتبت عليها آثار كارثية، لكنها تفنى فقط بالمساومة على وجودها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن