ثقافة وفن

الجاذبية الثائرة

| د. نبيل طعمة

واحدة من أهم خصائص الحب الذي يقترن فيه الخير مع الشر، والفضيلة بالرذيلة، والغيرية بالأنانية، والرحمة والحنان والتضحية بالجور والاستبداد والقسوة، وقليل هم المحبون الذين استطاعوا تجريد الحب من عناصر الدنيا وتغذيته بمادة العطاء وحدها وتحريره من شوائب الفطرة المتحكمة في طبائع سواد البشر، ومن الغريب أن الجانب الوحشي في الحب قد يسيطر على الرجل العظيم نفسه أضعاف ما يسيطر على الرجل المتوسط أو العادي، لأن به يتجلى إسراف العظيم في إلحاق الأذى بمن يهوى، ويتخذ هذا الإسراف شكلاً فظيعاً مروعاً، يقضي على فضائل الحب شر قضاء، والواقع أن العظيم يسرف غالباً في كل شيء، فمتى أحب واستبدَّ في الحب جنح إلى الإسراف، إما في إنكار الذات والتضحية، وإما في إرادة التملك ممثلة في الغيرة المصحوبة بشتى ألوان الجور والعسف والاضطهاد.
يحدث الحب لحظة أن تنطلق إشعاعات تصيب شغاف القلب بعد التقاطها من اللغة البصرية المنبهرة وإيقاعاتها المنسابة إلى السمع، وبشكل أدق تظهر كبركان ثائر عليه الجاذبية القادمة من المشهد الأول بأبعاده المتقدمة والمؤخرة، ليأخذ الشكل العنيف، الذي ربما لا يكون دائماً أفضل أنواع الحب أو أكثرها بقاء، وربما حمل هذا النوع من الحب في طياته مأساة تطوح بأحد المحبين، إن لم تطح بهما.
الحب جوهر الفكر، هو كالموت، لا يعترف بالطبقات ولا بالثروة أو الجاه، وهو بداية المعرفة كما حال النار بداية النور، وهو شمس الحياة الإنسانية، كلما أشرق عليها نمت وترعرعت معاني الفضيلة والخير، الحب تكامل يسعى إليه مستنفعان يتقاسمان ملكيته، ويستثمران فيه تبادل العطاء، وفيه شرعة وناموس لا يقبلان التهديد، ولا يسعيان إلى التنديد، لذلك نجده وقد تحول إلى جائحة شريرة لم تعد بين الأغنياء أو الفقراء محدثاً اضطرابات كبرى نتاج محاصرته ومنعه من التطور والظهور.
الحرمان من الحب والحنان والمرأة المؤنسة حرمان من الخير والعطاء والتطور، وإذا حدث أدى إلى التهالك وفقدان الشعور بلذة الحياة وغرائزها الطبيعية والاستثنائية، ويدخل المرء إلى دائرة العذابات الشديدة الوطأة نتاج ثوران اللغة البصرية التي تنجذب إلى صراخ الجمال والفتنة، لتحدث التعلق ومن ثم الإدمان الذي يشابه جمال ما حرمه الإنسان، بعد أن جربه وخاف من التعلق به كالميسر والخمر والرهان والتعاطي مع الحور الحسان، حيث اعتبر جميعها رجساً من عمل الشيطان، ويجب الابتعاد عنها واجتنابها، وهنا أضرب مثلاً: عابر سبيل، طلب حسنةً من رجل حسن الهندام، فقال له الرجل: لن أعطيك لأنك ستسكر بما أعطيك، وأجابه الطالب بأنه لم يتذوق المسكر في حياته، إذاً، ستراهن بها أو ستلعب القمار، فقال الطالب: لا أراهن ولا ألعب القمار، إذاً، ستعطيها لإحدى الغواني، فأجابه لا أتعاطى معهن، تفرّس الرجل في السائل، ثم قال له: سأعطيك أكثر مما تطلب، لكن تعال معي إلى منزلي لتراك زوجتي، فتعرف عندئذ ما يحل بالرجل الذي لا يحب الحياة ومحروم منها.
أسلحة سرية تمتلكها الجاذبية الثائرة التي تدعو إلى الحب والعشق والهيام، ومن أهمها رقة الحديث وقوته وانسيابيته والحركة التي تثير الانتباه أثناء المسير والإرادة على تنفيذ المراد ضمن جميع الأحوال والتفاؤل المستمر الذي يستنبط الجمال، وينثر الخير القادم من المعنى الروحي، فالواقع يشير إلى أن الجاذبية ليست في أن تكون المرأة تمثالاً يُبهر، ولا الرجل قوة تدمر، فالرجل يبحث في المرأة عن روح يحبها، والمرأة تبحث عن شخصية تتجاوب معها وتوفر الذكاء، هو الذي يعلن عن حضور الجاذبية، وليس معنى الذكاء أن يبتدرا الصداقة، بل التحدث بالحكمة التي تنظر إلى هذه الحياة بمنظار العمل الخلاق والطبيعة مع العفوية، هذه الصفات التي تضفي على الحياة ألواناً ساحرة ممتلئة بالفتنة والجمال، لأننا نبحث عنها، نجدها مغلقة بالغيوم الرقيقة، ومحاطة بأجواء هلامية غير ملموسة، ممتلئة بالفنون والموسيقا، ورغم كل ذلك فهي هكذا الحياة دائبة نشيطة مفعمة بالغرائز المتضاربة، كل منها يجذب الإنسان، حيث تكون في محيطها المرئي، فيتكون على شاكلتها، تحمله الانتصار لهذا والخذلان لذاك، ومعها إما أن تهوي به إلى أسفل المراتب الإنسانية، وإما أن تصعد به إلى جنبات الآلهة، ومعها يجب ألا يتولى الإنسان العجب، أو تأخذه الدهشة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن