قضايا وآراء

سلطة وادي السيليكون

| عامر نعيم إلياس

أطيح بالرئيس الأميركي دونالد ترامب «بكبسة زر» من الرؤساء التنفيذيين لتويتر وفيسبوك، 35 مليون متابع لترامب لم يشفعوا له، ذهبت فقاعة المتابعين والمؤيدين والمناصرين الرقميين منهم والواقعيين، إلى غير رجعة، فالرجل وإن كان يملك تأثيراً، لكن القرار اتخذ بحقه وبحق عشرات ملايين الأشخاص من متابعيه، القرار اتخذ من دون انتظار تحرك القضاء والسلطات المختصة للبت في الكارثة السياسية غير المسبوقة في الولايات المتحدة يوم 6 من الشهر الجاري عند اقتحام مبنى الكابيتول.
إذاً، قرر وادي السيليكون حظر ترامب المنتهية ولايته يوم الثامن من الشهر الجاري، بعد يومين فقط على حادثة الكابيتول، في تصرف قسم الرأي العام والنخب المختصة إلى معسكرين: الأول، رحب بتطبيق وسائل التواصل الاجتماعي قوانينها على رئيس أكبر دولة في العالم، والمعسكر الثاني رأى أن ما حصل يهدد حرية التعبير على شبكات التواصل ويقيّدها، فما مدى سلطة وادي السيليكون وكيف يمكن الخروج من هذه المتاهة الرقمية؟
مما لا شك فيه أن وسائل التواصل استطاعت خداع الجميع، وبتنا اليوم في مواجهة نوعين من الساسة، الأول تقليدي يعتمد العمل على الأرض والخطاب الموجه إلى الداخل عبر التواصل المباشر ووسائل الإعلام التقليدية والأحزاب ومؤتمراتها، هذا لا يعني أن هذا النوع لا يعتمد على وسائل التواصل، لكن المؤسسات الإعلامية والسياسية التقليدية المختصة هي المسؤولة عن إبراز أي قرار، وهي المنبر الذي يتم عبره نقاش أثر أي تحرك على الرأي العام والقاعدة الشعبية، وهي المصدر الأول للخبر، فيما وسائل التواصل تعمل على الجانب الدعائي الترفيهي فقط.
النوع الثاني من الساسة يجسده ترامب الذي تعد شبكات التواصل الاجتماعي ميدانه المفضل للتواصل وإصدار القرارات مهما بلغت درجة خطورتها وتأثيرها، سواء الداخلي منها أم الخارجي، وهنا كان مقتل الرجل الذي عُزل اليوم من الرؤساء التنفيذيين لتويتر وفيسبوك، وليس من الطبقة السياسية الأميركية أو الرأي العام الأميركي، فالرجل الذي يبني مجده على مواقع التواصل، يشطب بإجراء تقني بسيط، وبالتالي نحن اليوم أمام تحوّل وادي السيليكون ومنصاته الرقمية إلى حاكم ورقيب مطلق السلطات، وبات السؤال يتعلق بالشرعية التي يمتلكها الرؤساء التنفيذيون للشركات لتنصيب أنفسهم حكاماً لإدارة المحتوى الموجود على منصاتهم وتصنيفه بين رأي وحرية تعبير، وبين ما هو خطر على الأمن السياسي والمجتمعي وعلى «الانتقال السلمي للسلطة» وفق البيان الصادر عن فيسبوك فيما يخص حظر ترامب حتى إتمام انتقال السلطة.
لقد عملت وسائل التواصل الاجتماعي على العبث بمصير الأمم والدول الأخرى، فإذا استثنينا هذا التحرك من قبلها فيما يخص أمن الولايات المتحدة، نرى أن المطالبات بتأطير المنصات الرقمية ووضع قوانين صارمة على حرية التعبير والأفكار المنشورة، كان أمراً مطروحاً منذ سنوات من الخبراء ومن الدول المتضررة التي جرى العبث بمصيرها عبر وسائل التواصل، واليوم ارتد، ولو بشكل أقل عنفاً، السحر على الساحر، وبات الغرب في مرمى وسائل التواصل ودوله هي المستهدفة، فبالرغم من أن حظر أو حجب حساب شخص أو مجموعة تعتبر خطراً على الأمن المجتمعي يقطع دابر الإشاعة وينهي تأثير هذه المجموعة ويحرمها من منصةٍ للتعبير عن رأيها، إلا أن ما حدث في الولايات المتحدة يعيد تعويم السبب الحقيقي الذي يقف وراء القوة التي تتمتع بها وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت عبر السنوات الماضية اجتذاب أغلبية سكان الكرة الأرضية بمختلف توجهاتهم، فالمحتوى يقوم على مخاطبة الناس بما يريدون سماعه وتصديقه وما يتوافق مع غرائزهم، وهذه الوسائل تعمل على نشر المحتوى الأكثر إثارة للانقسام الذي لا علاقة له بحرية التعبير، وهو أمر يجعل من التحوّل إلى رقيب في هذا التوقيت المتأخر، أمراً معقداً جداً حيث خلقت وسائل التواصل هذه، ملايين الناس المستعدة لتصديق إشاعة لا وجود لها على أرض الواقع لمجرد أنهم يريدون سماعها أو تتوافق معهم، وهذه معضلة اليوم في الولايات المتحدة على الرغم من إسكات ترامب مؤقتاً.
إن ما جرى مع ترامب يطرح سلسلةً من التساؤلات ويثبت العديد من الحقائق التي لا بد من الإشارة إليها:
أولاً: ما حصل بالتحديد داخل الولايات المتحدة وتحرك المنصات الرقمية والانقسام بين من رأى أن الأمر تقييد لحرية التعبير، ومن رأى أنه دور رقابي متميز لوسائل التواصل على رئيس أكبر قوة عالمية، طرح ما يمكن تسميته الارتباك المفاهيمي لتفسير الحدث بمجمله، هل هو أعمال شغب أم تظاهرات أم انقلاب أم إرهاب؟
ثانياً: أبرز الدور الحقيقي لمنصات التواصل الاجتماعي وأثرها على المفاهيم العامة الناظمة للحياة السياسية والحركة المجتمعية.
ثالثاً: أكد أن الحل ليس باللجوء إلى المنصات الرقمية لكسب المؤيدين والاستناد إليهم في أي رهان سواء كان سياسياً أم اقتصادياً، فالحل يبدأ بالعودة إلى العمل السياسي الإعلامي المنظم والمؤسساتي، ومخاطبة الشارع عبر الأطر النقابية والشعبية التقليدية، ومعالجة الهواجس على أرض الواقع.
إن حظر ترامب لا يحل المشكلة بشكل نهائي، فالحراك غير المسبوق في الولايات المتحدة هو انعكاس لانقسام مجتمعي وخوف من الأقليات العرقية والجاليات الأخرى المهاجرة الموجودة على الأرض الأميركية، وغضب من التجاوزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعت جزءاً من الشعب لتحركٍ عنيف غير مسبوق، وهو شعب عرف بسلوكه المبرمج تجاه مؤسسات الحكم التي تمتلك صبغة شبه مقدسة في العقلية الجمعية.
رابعاً: ماذا عن تجنيد المسلحين والجماعات الإرهابية والأفكار المتطرفة التي أدى التغاضي عن محتوى الصفحات التي تروج لها، إلى دمار دولٍ بأكملها؟ وما مسؤولية المنصات الرقمية عن المحتوى الذي تبثه؟ هل يجوز الاستمرار في نشر المحتوى الأكثر انقساماً لكسب المزيد من المتابعين بحجة صيانة واحتواء مختلف الآراء، أم إن أحداث واشنطن ستؤسس لتأطير المحتوى الموجود عبر المنصات الرقمية ما يحفظ حقوق مختلف دول العالم ويراعي حساسية تركيبتها؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن