غربة في الوطن!
عصام داري :
انفجر البركان البشري فجأة، وتدفقت جموع السوريين الهاربين من خيمة الوطن إلى خيام ومعسكرات أعدت لهم خصيصاً، وما أحلى خيمة تغطي ثقوبها الرقع، على فنادق إسمنتية، ومعسكرات ومخيمات تذكرنا بغربات متتالية من زمن الطوفان، إلى زمن طوفان كتب علينا أن نعيشه، أو نراقب موتنا في عرض البحار، وعلى بوابات القارة العجوز التي تريد تجديد شبابها بشبابنا.
كأنما كتب علينا الرحيل من عصر البداوة الأولى، إلى زمن البداوة التي لم تغادر عقولنا المتحجرة التي صنعت في ما قبل التاريخ.
أراقب كل ثانية رحيل أزاهير سورية نحو المجهول، نحو بحر صار وحشاً يبتلع فراشات وعصافير ملونة بألوان الحياة فإذا بها صارت حكايا صغيرة من ماض قريب!.
بالأمس ودعت صديقاً كان بمثابة الابن، عانقته العناق الأخير، أدركت أنه اللقاء الأخير والوداع الأخير، بعد أيام نشر صورته: أنا واليونان من خلفي، وصل اليونان بانتظار رحلة ثانية وثالثة إلى الوطن الجديد!! هل سيكون وطناً حنونا يغفر لأبنائه أخطاءهم وخطاياهم كوطن نبتوا فيه كالأزاهير والأشواك، فأرادوا أن يقتلعوا أنفسهم من تربة هذا الوطن المقدسة؟.
يغادر من يغادر ربما هربا من وحش صار يلتهم العصافير والفراشات والحمام، وأيضاً هربوا من وحوش كبرت وترعرعت برعاية هذا الوحش، وراحت تلتهم الوطن الذي صار فريسة لكل من هبّ ودبّ، وتجار الأزمات، والفاسدين والمفسدين الذين يلتهمون وطناً بالشوكة والسكين.. نعم بالسكين التي غرسوها في قلوبنا وصدورنا وتركونا عللا قيد الحياة كي يتمكنوا من امتصاص دمائنا حتى آخر قطرة، وهل بقي لنا دماء؟!.
تذكرت مسرحية غربة والسؤال الكبير: لمن تتركون الأرض؟.. والأجوبة الجارحة: للإصلاح الزراعي، لخرفان بيك، وأضيف: لأصحاب السطوة، للفاسدين وأكلة لحوم الوطن!! لكل من هبّ ودبّ وتجار الأزمة و.. و.. و.
غريبة هذه الحياة، هروب بالآلاف، وهناك من يحرقه الشوق لعناق أشجار الوطن، وتقبيل التراب المقدس لسورية، والحنين لحارات وأزقة دمشق وحمص وحلب واللاذقية والدير و.. كل مدينة وقرية وحارة من الشام باسمها التاريخي والجغرافي.
لي الكثير من الأصدقاء في بلدان الاغتراب، من دول الخليج إلى أوروبا وصولاً إلى الولايات المتحدة، وأنا على تواصل معهم جميعاً، منذ فترة ليست بالقصيرة، تواصلت مع صديقة قديمة تقيم خارج سورية، شعرت بحنين لديها للرجوع للشام، ولاحتساء فنجان قهوة في النوفرة، وتناول سندويشة الفلافل في أي رصيف دمشقي يعيد ذكريات صارت حلماً.
اسمحي لي صديقتي أن أستعير كلماتك وأنشرها هنا للمقارنة بين الهاربين وعاشقي العودة.. كتبت تقول:
لا أعلم كم خطفت الغربة من متع كنت أحيا بها.
صدقا رغم الظروف الصعبة حالياً في الشام ولكن الحياة هناك أحلى وأروع.
أشعرتني باني موجودة رغم صقيع العواطف حولي وأنعشت قلبي في غربتي ووحدتي، شكراً أعطيتني جرعة من حبي لشامنا وعشقها والشوق لها أنت منها.
هل أكتفي أم أزيد؟ هي صديقة من صديقات وأصدقاء كثر يتوقون لمعانقة الشام، وأهل الشام، فالغربة صعبة ومؤلمة، لكن الموجع أكثر الغربة في الوطن، فهل هناك من يسمع الصرخة؟!.