ثقافة وفن

فاتح مدرس.. عالم من الإبداع المرهف والمتألق «2»

| د. إسماعيل مروة

يعد فاتح مدرس من المبدعين العرب القلة الذين برعوا في أكثر من ميدان، وفي كل ميدان إبداعي عمل فيه وقدّم ما لديه كان مميزاً، وصاحب شخصية وهوية، بل إن الأمر تجاوز إلى أن مدرس ترك بصمة خاصة، وكان صاحب مدرسة خاصة، ويؤسف أن هذا المبدع وأمثاله يغيب عن ميدان التدريس والمناهج في المراحل الأولى، وفي المراحل الجامعية..!

هذا الملمح الذي يتحدث عنه سعيد حورانية يقودنا إلى أمرين:
1- الأول ذاتي، وله علاقة بفاتح وأسرته التي أوقعت عليه وعلى أمه الظلم بسبب المفهوم الطبقي للمجتمع، والذي بقي محفوراً في ذاكرته ولونه وحرفه، وهذا ما يدفع إلى تخمين أن المرأة التي رسمها فاتح طويلاً وعلى رأسها هلال إلى أعلى أو إلى أسفل هي أمه التي بقيت صورتها وحياتها دافعاً لنقل البيئة بكل تفاصيل قسوتها وهيمنتها على مقادير الناس، وتحوّل فاتح من إنسان قابل للطحن إلى إنسان يشعّ لونه وحرفه لم يغيّر شيئاً من قناعات فاتح الذي لم ير خلاصه كافياً، وبقي يرقب مجتمعاً عاشه، وبيئة خرج منها، وهي تستمر في طحن الإنسان وآماله، وإن لم يصرّح كثيراً بالمظلومية، ولم يتاجر بها.
غداً
سنلتقي من جديد
بقلوب من حديد
غداً
والعيون حشوها الرماد
وكتاب، جلده حيّ
غاب من زمان لحمه النيء
غداً
بلا قدم، أو خد
والقلب؟
سيشتدّ ويضمحلّ
شيئاً فشيئاً
حب.
وسنلتقي من جديد.. من جديد!
هذا النص لفاتح فيه ما فيه من فهم للآخر والمعادلة، ونظرة للغد، انطلاقاً من بيئة اتسمت بالقسوة والرماد والظلمة، وكان بحثه عن الحب وحده.
عالم مليء بالقسوة التي عاشها فاتح، وحدث مجالسيه عنها تمثلت في الأغوات والصراع الطبقي والاجتماعي الذي دفع ثمنه في ذاته، لكن رهافته، وحسّه بالمسؤولية، وتفوقه لم يحل دون أن يبقى هذا المجتمع هاجساً يلاحقه، ليس من أجله وحده، فهو قد نجا، بل من أجل مجتمع يطحنه شرّ الإنسان، وتقتله دوامة الطبيعة كما فعلت بطفلته صاحبة الجديلة (عالو).. وتجربته الشخصية، وانغماسه في البيئة جعله يقدم لنا صورة بيئية فيها من الجمال والتناغم ما فيها، وفيها من القسوة الكثير، ويقدم هذا المجتمع تقديم العارف بتنويعاته الاجتماعية والقومية والثقافية، فهذا الآغا، وذاك رشو، وتلك عالو، ونحن نعلم أن التنويع القومي هو الذي يصبغ تلك البيئة، والأسماء والألقاب التي تنتهي بالواو تدل على شرائح، كان فاتح الأقدر على الحديث عنها، لأنه ينتمي إلى جوهرها بساطة وقسوة.
2- مع تعدد المبدعين والكاتبين المنتمين إلى حلب وما بعدها، إلا أن فاتح قد يكون الأكثر تميزاً، فعدد منهم وهم أصدقاء أناخوا في المدينة، حلب أو دمشق، أو سواهما، وصارت الحياة عندهم حاضرة بلا ذاكرة.. وقد تكون بعض الأصوات أغرقت في المحلية وفي تفاصيل لا تتعلق بالإنسان بل تتعلق بالهوية، وهو ما أدى إلى بقائها ضمن إطار مجتمعي، وعجزت عن الوصول إلى جوهر الإنسان والبحث عن سعادته.
أزعم أن مجموعة فاتح، وبعض ما كتبه الدكتور عبد السلام العجيلي من النادر الذي التصق بمجتمعه في الشمال بحب ورغبة في خلاص الإنسان، وهذا ما جعل قصص عود النعنع صورة فريدة لا تتكرر، وحتى في إنتاج فاتح مدرس لم يستطع أن يكررها، هذه الطبيعة والبيئة والممتدة ما بين حرّ وبرد، ووديان وجرود، وطبيعة تمتد إلى اللانهاية، يحصرها الإنسان بحقده، ولا يقدر الطيبون على فعل شيء.
«وتصورت كيف كانت تذهب إلى النهر من قديم الزمان مع والدها «مسلّم» الذي أرسله الآغا إلى مخفر العسكر، ولم يعد حتى الآن. وبدت جبال كمنون الشمالية البعيدة، بنفسجية بعيدة، لعله وراء تلك المرتفعات الآن، وتذكرت أنه قال: سيحضر لها تمراً إذا عاد كما سيحضر لأمها الدواء».
عالو تشرح الطبيعة الجميلة الآسرة، والقاسية التي تحجب الأحباب، والتي تجعل الأمنيات في إطار الرغائب، التمر والدواء.
هذا عندما تطرد زوجة الآغا أمها..
ويتعذر الحصول على نبتة الكينا..
وتبدأ عالو نفسها رحلة البحث عن الدواء، عن عود النعنع لأمها، تبحث ليكون دواء عالو وأمها هو انتهاء رحلة المعاناة، دون أن نجد أي شيء من الآغا وزوجته، وتبقى جبال كمنون صامتة لا تثور من أجل الإنسان.
«حتى بدا كأن قلب النهر ينفجر حزناً، وتقلّب رأس عالو مع التيار، والتقى وجهها بوجه السماء. لقد كان وجه عالو جميلاً.. إلا أن وجه السماء كان لا يعرف العداوة.. ولا الرحمة حسب عادته. وقال الراعي الذي انتشلها مساء من الماء، إنه وجد في يدها عوداً من النعنع».
وفي قصة (الغراف) يستمر فاتح في استلهام البيئة وتصويرها وتقديمها بأسلوب أقرب ما يكون إلى اللوحة التشكيلية بألوانها المتناقضة والمتنافرة، والتي تتحول بقدرة مبدع إلى لوحة منسجمة «وكرّت صور ريف المنطقة الشرقية الشاسعة أمام عيوننا، فرأينا أجمل سماء. سماء ساكنة فوق قبر واسع نبتت فيه الأحزان عاماً إثر عام ثم اندفعت فيه من جديد، وهكذا تجري الحياة وتصورت أن السماء الناصعة تابوت عتيق هرب من صاحبه وداس الأوتوبيس في حفرة ثم خرج منها بعد أن خلط أمعاءنا..».
ما بين عرض صورة جمالية للسماء الصافية واختيار صورة القبر للمنطقة الشرقية بون جمالي شاسع، لكن فاتح لم يدفعه حبه لتزيين الحقائق، وإنما أنجز صورته الحروفية كلوحة تظهر الجمال، ولا تخفي معالم القبح والقسوة.
وفي ذلك الزمن البعيد قد يكون فاتح من أوائل من فتح البيئة على مصاريعها في نصه، فها هو يصف «عالو» بطلة عود النعنع الطفلة فيقول:
«فانحدرت وراحت تركض وتغني (كندر، كندر، كندر) وهي أغنية كردية قديمة يغنيها الأطفال الأكراد الجياع، ومعناها (كوسا، كوسا، كوساية) وأردفت:
كندر كندر كندرا كندر تغابر غرا
ومعناها أن الكوساسة مع البرغلاية إلى آخر ما تبقى من الأنشودة
كندر ويناهندركن
كندروينا ماليكن
وكان النهر قد انكشف أمام عينيها، فتوقفت عند أول شجرة زعرور حيث يقوم قبرولي من أولياء الله الأكراد، يشاع أن اسمه ولي محمود، أي محمود المجنون وقالت بسرها لولي الله: لماذا لا يوجد زعرور على هذه الشجرة أيها الولي الميت؟».
وقد يطرح أحدناهنا سؤالاً؟
هل هناك ولي لله للأكراد وآخر للعرب؟
هل تتسع الأرض لكل هؤلاء الأولياء؟
لماذا كان الولي في طريق عالو وهي تسعى إلى دواء أمها التي طردتها زوجة الآغا؟
وماذا فعل الولي مع الآغا وزوجته؟
وفي قصته الرائعة «رشو آغا» يقدم فاتح نموذجاً مهماً للمرابين، وفي بيئة بكر لم نعرفها من قبل، ولم نشهد قسوة ما فيها.
«ولما همّ رشو بأن يجيب وقعت عيون أبي عمر على حزمة من البصل النتن مستقرة في قعر أحد الصندوقين الخشبيين، فزعق:

– ماذا؟ بضاعة كاسدة؟ ألم تبعها؟ فقال العجوز بهدوء.

– الكلاب تأنف من أكلها.

– هه، أنت أعلم بهذا مني سأقيدها على حسابك.

ثلاثون عاماً قضاها رشو في خدمة هذا المرابي لقاء إيفاء مئتي ليرة سورية كان قد استدانها منه، وكلما طمس رشو جزءاً من هذا الدين ازداد في اليوم التالي.. فحمل عصاه وجرّ وراءه كورد ومضى يحمل حزمة البصل تحت إبطه.
كانت ابنته الوحيدة نازة نائمة في ظلمات عريقة: نازة، نازة، أبا قزه «انهضي يا ابنتي» «تاهات بافي»؟ «هل أتيت يا أبي؟».
ونهض الصوت كأنه حزمة طويلة من عيدان الحنطة لم تلبث أن حولها الظلام بعصا ساحر إلى صبية لم يستطع الفقر والليل من طمس معالم جمالها الأغبر».
فالبيئة التي تناولها فاتح مدرس كانت بيئته التي انطلق منها، وربما تركت فيه أثراً لا يزول، ولم يستطع أن يتخلص منه مع الزمن الممتد الطويل الذي عاشه ما بين حلب ودمشق ومختلف مدن العالم، وربما كانت هذه البيئة هي التي لونت حياة فاتح وصبغته حتى النهاية، ولم يخرج منها، لذلك عمد إلى إصدار مجموعة قصصية واحدة هي عود النعنع، ولم ينشر قصة أخرى أو قصصاً تتناول رحلاته أو حياته المدينة، وربما كان ذلك من قناعة فاتح- وأنا أؤكد ذلك- أن تلك البيئة أوجزت رأيه في الحياة ودأبها سواء في نصوصه القصصية أو في لوحاته التشكيلية.

الشخصيات

كانت شخصيات فاتح مدرس في نصوصه القصصية من الطبقة المسحوقة اجتماعياً، فكانت الطفلة عالو، والنسوة البسيطات اللاتي يغتسلن عند النهر، وكان خيرو وأمه وأبو عثمان، وأم جمعة، وخلق ينتهرون بالتراكتور أبطاله، وشهاب الفقر، وخليف وأطفال من البؤس بمكان رسموا معالم حياة البيئة، وهو إن ذكر الآغا أو زوجته أو زبانيته فإنما يذكرهم لإكمال صورة البؤس والمعاناة.
وفي تلك المرحلة المتقدمة يسجل لفاتح مدرس كما سجل لرواد الرواية والقصة الذين خرجوا عن اعتماد الأبطال من الذوات الذين يرنو إليهم القراء عند كل فاصلة، ليجسد أبطاله في هؤلاء المساكين من الطبقة الفقيرة المسحوقة ليحولهم إلى أبطال ورموز للحياة الإنسانية وكفاح الإنسان للوصول إلى نقطة الإبهار.
وفي اختيار فاتح للأبطال أسباب ونتائج:

أ- لفت الانتباه إلى حياة الشريحة الأكبر في المجتمع.

ب- تفنيد الظلم الواقع على الناس.

ج- فضح التمايز الطبقي الذي يسحق الإنسان.

د- تصوير الفجائية التي لا يلتفت إليها الكثيرون في مجتمعاتنا.

النهايات

نهايات القصص عند فاتح مدرس فجائعية مفتوحة على الألم، ولمن يعاني الأدب والقص يعلم أن هذه النهايات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالغايات التي من أجلها كتب قصصه، فالقصص التي دونها في عود النعنع لم تكن من أجل الكتابة، ولم تكن جمعاً عادياً كما يفعل الكثيرون، وهذا ما أشار إليه سعيد حورانية في مقدمته، ففاتح ليس فناناً مترفاً يريد أن يثبت اسمه في عالم القصص، وإنما كانت قصصه مقصودة ليكشف الغطاء عن عالم بقي في دواخله حتى آخر أيامه، ولننظر فيما كتبه فاتح مدرس بقلمه عن مهمة الإبداع، وأثبتته السيدة المهندسة سمر حمارنة في مقدمة كتابها الجليل عن فاتح مدرس وتجربته:
سيدتي العزيزة.. الإيمان الذي يمنحه الإنسان لنفسه في قبول جدوى الفنون في بناء عالم، وقناعة هذا الإنسان في رفض الألم الاجتماعي ورفض الأذى الذي يلحقه تشويه معالم الحضارة في بناء إنسانية الإنسان، أقدره أكبر تقدير لذاتك النبيلة.
نحن نؤمن بأن الفنون الجميلة والتعايش في ظلال مفاهيمها تستطيع بلا أدنى شك إبعاد الكوارث اللاأخلاقية عن مسيرة الخير والجمال والديمقراطية
هذا المقطع من الأهمية بمكان لأن فاتح يضع نصب عينه، وبعد تجربة طويلة، تبدو من تاريخ كتابة هذا الكلام، مجموعة من الروائز التي يسعها إلى تعزيز بعضها، وإلى إلغاء بعضها الآخر:

– الإنسان وجدوى الفنون لاعبثيتها.

– رفض الألم الاجتماعي والأذى.

– إبعاد الكوارث اللاأخلاقية عن الحياة.

– السعي إلى الخير والجمال والديمقراطية.

ومن هذه المقولات نستشف معنى النهايات الحقيقية والصادمة التي أنهى فاتح بها قصصه، فهو لم يشأن أن يضع نهايات خيالية تفاؤلية خلبية يمكن أن تخدع الإنسان بالمعسول، وإنما كان صادقاً ومؤلماً، راصداً الطبائع الإنسانية على حقيقتها، رافضاً التحول المؤقت الذي يأتي تحت ظرف معين، فعالو تموت وفي يدها عرق النعنع، يجب أن تموت، ويجب ألا يصل الدواء إلى أمها، ويجب أن تطردها زوجة الآغا، بل ويجب أن يلفظ النهر جسد عالو الصغير الطائر، لتبقى يدها المقبوضة على عرق النعنع شاهداً على حقارة الإنسان وقسوته ورفضه في أن يكون إنساناً.
خاصة عندما نستعرض هذه القصص لنعرف أن هؤلاء الأغوات وزوجاتهم لا علاقة لهم بالإنسانية، والجائع إن شبع بطنه لن تشبع جوارحه الأخرى!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن