ثقافة وفن

فاتح المدرس.. عالم من الإبداع المرهف والمتألق «3»

| د. إسماعيل مروة

يعد فاتح المدرس من المبدعين العرب لقلة الذين برعوا في أكثر من ميدان، وفي كل ميدان إبداعي عمل فيه وقدّم ما لديه كان مميزاً، وصاحب شخصية وهوية، بل إن الأمر تجاوز إلى أن المدرس ترك بصمة خاصة، وكان صاحب مدرسة خاصة، ويؤسف أن هذا المبدع وأمثاله يغيب عن ميدان التدريس والمناهج في المراحل الأولى، وفي المراحل الجامعية..!

4- القصة والحرف واللون: عند فاتح المدرس نجد الحرف مرهقاً بمواجهة الظلم الاجتماعي، ولا يبتعد عن ذلك في أمرين:

أ- الصورة الحروفية، ففي كل قصة من قصصه لا نجد حبكاً حروفياً بقدر ما نجدر نزفاً من خلال صورة يقوم بكتابتها كما لو أنه يرسم صورة للمأساة الكبيرة للإنسان، فالمشهد الحروفي عنده مشهد مرسوم بعناية، يتكون بتلون المأساة التي يرسمها، فأنت عندما تقرأ قصص فاتح المدرس تجد نفسك أما مشهدية مرئية تتجاوز المكانية المعهودة لدى كتاب القصة والشعراء، وفي قصصه تتحرك الأحداث والشخصيات في شريط ملون ومرئي، فعالو تطفو ببراءتها على سطح ماء النهر القاسي الذي فقد نقاءه لأنه تعاون مع الظلم على الإنسان البريء، وعرق النعنع الأخضر يبدو وسط القبح، واليد البضة البيضاء تقبض عليه، وتأتي إليك صورة ابتسامة هازئة ساخرة من كل ما يحيط بها من حولها.
وكذلك عندما يتحدث عن السرافيس والطريق بين حلب والقرى المحيطة، فإنك تقرأ لوحة متكاملة في إطارات بشرية لا خشبية تمتد في سلسلة لا نهائية من البشر المطحونين.. حتى الحيوانات عند فاتح تتحول إلى الأنسنة وإدراك المشاعر النبيلة التي افتقدها البشر، ولديهم المزيد منها!

ب- اللوحة اللونية من يتابع فاتح المدرس في إبداعه التشكيلي يجد أن المبدع له طريقة في رسم الشخوص ووجوههم وتشوهاتهم، وهذا ليس نابعاً كما يقول بعض النقاد من عجزه عن رسم البورتريه، وإنما يعود إلى رؤيته في قراءة وجوه الناس، ولو كان الأمر متعلقاً بمهارة في الوجوه كان بإمكانه أن يتجاهل الوجوه وألا يقترب منها، ولكن المدرس قرأ الوجوه الظالمة والمظلومة على السواء بطريقة حقيقية تنسجم مع رؤيته، فالظلم النابع منها أفقدها إنسانيتها، والظلم الواقع على الأخرى أفقدها جوهرها الإنساني، وهذا ما أعطى لوحة فاتح خصوصية عجز كثيرون عن اللحاق بها أو حتى تقليدها، لأنها مصوغة من عمق إحساسه بالظلم الاجتماعي والإنساني، وخاصة أن الفنان كان إنسانياً في تعامله مع الآخر.
وفي ألوانه نجد القتامة التي تعبر عن عمق هذا الظلم، حتى عندما تكون ألوانه زاهية يقلبها الشكل والهندسة والحظوظ التي تنبع من قلب فاتح إلى أصابعه لتشكل عالماً مسحوقاً يصوره الظلم وتستعبد به القسوة اللامتناهية ويكفي للتدليل على ذلك أن هذا الظلم رافق فاتح إلى آخر أيامه وعبّر عنه، ولم يتخلص منه!

5- لغته: ليس المقصود هنا الحديث عن لغة فاتح المدرس بين الفصحى والعامية كما هو سائد، فمن الطبيعي لأدب قصصي مطبوع في سورية أن يكون فصيحاً من حيث البنية اللغوية ولكن بأن الكاتب جعل الشخصيات تتحدث بما لا يناسبها، فنجد العامل البسيط يتحدث باللغة نفسها التي يتحدثها المدير والمثقف لغته تتطابق مع لغة من لم يدخل مدرسة أو يجلس على مقعد دراسي، لذلك عندما أقرأ قصص فاتح فإنني أقف عن مستويات عدة:

– اللغة العربية: القاص في هذه المجموعة يكتب بعربية مفهومة لكل عربي، فالبيئة المغرقة في المحلية المناطقية أكثر من السورية لم تحل دون أن يكتب بلغة مفهومة، وفيها من البراعة اللغوية ما يدل على خبرة الكاتب اللغوية، وخزانة اللغوية (وقد استطالت معالم وجهه بعد أن صبغته لحية مهملة كالهباب).
وطرق الباب بيد، فجاءت هرة من الداخل وخيل إلي إنني أسمع بكاء صغيراً خافتاً، أو أن أحدهم يتنفس القلب مثقلاً بالحزن، وتمددت على أريكة بعد أن أبعدت لوحاتي ورحت أحسب يوم ميلادها).
وهذه اللغة الخاصة بمعرفة فاتح تأتي عند القص والسرد، وتغيب عندما يختار أن يتحدث بلسان الأبطال الذين ينتمون أصلاً إلى مجتمع قد لا يجيد كثيرون منه العربية.

– اللغة الدارجة: هنا لا أقصد العامية، لأن الغاية ليست تسقّط عدد الكلمات العامية التي وردت في القصص فنحن أمام عالم حي له لغته ولسنا أمام نص لغوي وليس من باب التجميل أن يزرع كلمة هنا أو كلمة هناك من الدارجة في النص، إذ كثيراً ما نجد ناقداً يقول، وقد تخلل نصه كلمات عامية، وكأن العامية أو الدارجة هدف بذاته يسعى الكاتب لإيجاد فرصة ليزين بها نصه وبما أن النص القصصي والروائي حياة وحياة مجتمع فلا بد أن يعبر عن المجتمع وله.
(فهمت أن هذا المختار لم يسعفه ضميره حتى ختم عرضحال المريضة مجاناً مع أنها تعمل في بستانه (لا يوجد طوقتور يوزع الكينا).
(وال ما تخاف منه المية؟ دمج .. وأشار)
( يا خليف يا مسخط. والله إن وقعت بإيدي اعجنك بالعصا)
وهذه اللغة الدارجة جاءت أكثر ما جاءت في الحوارات بين الشخصيات، واستعمالها يدل على براعة فاتح أيما براعة، بغض النظر عن أن طريقة كتابتنا لها، وطريقة نطقها قد تجعلها عربية فصيحة ولكن فاتح كتبها بطريقة تنطق معها بالدارجة لا غير، ثم يتبعها بالوصف الفصيح ما يدل على وعي الاستخدام والنطق.

– لغة البيئة وإنصافها: يأخذ فاتح البيئة كما هي لا يقوم بسلبها محاسنها أو خصوصيتها كرمى لنفسه أو للقارئ والنص، ولا يثبت لغة البيئة ولهجتها على حساب النص، وإنما يقوم بالتذكير بلغة البيئة الخاصة، وربما سأل حتى يقوم بتفسيرها وترجمتها، وهذا ما كان منه عندما أثبت الأغنية الكردية (كندر كندر) إذ لم يشأ أن يجعل عالو التي لم تسمع موسيقا في يوم، حتى الموسيقا الكردية أن تغني شيئاً مما يعرفه هو أو القارئ على السواء، إذ لا يمكن أن يجعلها تدتدن لصباح أو فيروز أو أم كلثوم، فعالو ربما لم تسمع في حياتها أغنية ملحنة ولم تسمع سوى أهازيج الطفولة والبيئة من رفيقاتها والنسوة اللواتي يحطن بها، وهو عندما كتب الأهزوجة قام بترجمتها، والترجمة لم تكن لغاية الترجمة والفهم وإنما كانت سبيلاً للوصول إلى براءة الطفولة عنها الصغيرة التي سيغتالها القهر والماء ويشهد بذلك عود النعنع وربما كانت الأهزوجة للدلالة أيضاً على الفقر والجوع الذي تعانيه الطفلة، فالأغنية عن الكوسا والبرغل وما يملأ بطنها الجوع الذي سكت عنها لأنها تبحث عن الأهم وهو الدواء لأمها.

هناك من يرفض أن تثبت كلمات وتعابير في النص غير عربية، ولا ضير من تعريبها لكن ليس مع إثباتها ولو فعل ذلك فاتح لاستجلب سخرية القارئ لأن الكلمات تفقد معناها وأهميتها لو لم تكن مكتوبة بالعربية ولفظها الكردي قبل ترجمتها وتفسيرها، وفي هذا الأمر اللغوي براعة يمكن أن تفيد القارئ واللغتين على السواء في التبادل اللغوي، وهناك نماذج كثيرة تسللت فكشفت جوانب من التقارب اللغوي.

وعندما يعرض في معلولا يقف أمام السريانية، ويثبت لفظاً سريانياً لم يأت مجانياً أو بغاية الاستعراض اللغوي وإنما جاء موظفاً بطريقة مدروسة فاللوحة تحمل اسماً وهذا الاسم تمت ترجمته إلى السريانية من الرواد وحتى نكون منطقيين فإنه لم يترجم، وإنما أطلق عليه اسم محلي مفهوم من الرواد، هم أطلقوا الاسم المحلي الذي لا يعني قومية أخرى أو لغة أخرى ولا يحمل اسماً آخر سوى الاسم المحلي.
«هذه القرى تتكلم لغة المسيح كما قرأت:

– ألم تستمع إلى حديث الأطفال؟ إنها الآرامية تعيش في كنف أمها العربية.

– لغة ما زالت حية على أفواه الأطفال نعم لقد أحببت هذه القوة من الديمومة.

– بل قل هي من العربية جذوراً.

– أذكر عندما ترجم إلى أطفال معلولا اسم لوحتي «منتصف النهار».

– كيف؟

– ترجموها إلى «ملك اليوما».

– طبعاً ملك هو، الشمس واليوما هو اليوم.. أي شمس النهار.. وهنا لا يتوجب علينا القبول وعدم انتقاد القاص فاتح المدرس على استعماله الآرامية، كما فعل مع الكردية، وإنما يتوجب علينا أن تشيد بهذه المعرفة، وأن نتبع ذلك في الأدب الإبداعي عموماً، فإن نقدم معلومة أو معرفة في سياق النص، وسيقرأ هذا النص كثيرون لا يعلمون أشياء:

– لغة المسيح.

– لغة القرى العديدة في القلمون.

– العلاقة بين العربية و الآرامية.

– اللغة ما ملها الطفل.

لغة فاتح يقال فيه الكثير، خاصة إذا أردنا أن نتحدث عن اللغة والريشة واللون، وعن العلاقة التي تربط بين ريشة الرسم وريشة الكتابة، ولو أردت تتبع ذلك في نصوص فاتح فإن كل صفحة ستقابلها صفحة من الألفاظ والاستنباط، وأكتفي بهذه الإشارة التي إن دلت فإنها تدل على تفوق فاتح وجرأته ومعرفته في استخدام اللغة كما اللون.

وأخيراً..

فاتح المدرس، أيها الصديق الجليل والإنسان المهم المبدع.. جئت ذات لحظة إلى هذه الدنيا واخترت سورية واختارتك، واخترت الانحياز إلى الإنسان، وصدقك هذا قوبل بخلود ولم يعرفه أحد كما عرفته، وعشت جدية مطلقة، وسخرية لاذعة التكوين أنت.. وها نحن بعد زمن طويل تقف أمام ذكراك لنقطف وردة منك وننتمي إليك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن