قضايا وآراء

تموضعات الوقت الضائع

| عبد المنعم علي عيسى

راحت القوى الإقليمية في الأيام القليلة الماضية التي تسبق تحولات مفترضة سوف تشهدها السياسات الأميركية على الساحتين الإقليمية والدولية، تمضي في تحسين مواقعها، واتخاذ تموضعات جديدة تبعاً لقراءاتها المعتمدة تجاه تلك التحولات، والفعل، هنا لا يقف فقط عند هذه الأخيرة التي نقصد بها التحولات الأميركية، فالعام الذي دخلناه قبل نحو ثلاثة أسابيع، سيشهد العديد من الاستحقاقات المؤثرة في مجملها في التوازنات الإقليمية، ومؤثرة أيضاً بشكل مباشر في الصراع السوري الذي شهد خلال العام المنصرم تطورات كان من المفترض أن تكون دافعة لعربة الحل السياسي قبيل أن تعمد العديد من القوى الداخلة في الصراع إلى بعثرة الأوراق التي أعادت بعض القضايا إلى مربعاتها الأولى.
بعد أيام سنكون على موعد مع جولة خامسة من جولات «اللجنة الدستورية» التي يستحضر موعد انعقادها انكشافاً مفترضاً في خيوط أميركية تجاه الأزمة السورية سيحملها خطاب التنصيب الذي سيلقيه الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن في العشرين من الشهر الجاري، وفي آذار القادم ستكون هناك انتخابات جديدة في إسرائيل، التي ستشهد نظيرة لها في إيران شهر حزيران المقبل، وفي الأفق تلوح في تباشير هذي الأخيرة فوز رئيس محافظ ذي توجه متنافر مع الغرب، ولربما يشهد الشهر الأخير نفسه انتخابات الرئاسة السورية، أو هي ستحدث في الشهر الذي يليه على أبعد تقدير، وقبيل هذه الأحداث، أو ربما في أتونها أو بعدها، سيكون لبنان على موعد مع ولادة حكومة جديدة تبدو ولادتها راهناً أمراً متعذراً، مع احتمال أن تدفع تلك التطورات نحو حدوث تلاقيات بين الأطراف الداخلية، وكذا الخارجية الفاعلة، إلى القبول بخيار الجراحة القيصرية الذي بات ملحاً لوقف سيل الانهيارات التي تتأتى منابعها من كل حدب وصوب.
يمكن قراءة التصعيد التركي الأخير في بلدة عين عيسى ومحيطها بريف الرقة وبلدة تل تمر بريف الحسكة على أنه محاولة لتكريس الأوضاع القائمة في مناطق نفوذها في الشمال والشمال الشرقي من سورية، والمحاولة تتضمن هنا تحقيق إنجازات تتساقط في الجعبة التركية تضمن لأنقرة التأثير في العملية السياسية الجارية، والتوقيت هنا يلحظ تسلّم بايدن للسلطة في واشنطن في العشرين من الشهر الجاري، حيث المسعى التركي يهدف هنا إلى مراكمة الثقل في ملفات سيكون لها تأثيرات في توازنات المرحلة الجديدة في سورية التي يفترض لها أن تبدأ بالتزامن مع الحدث الأميركي آنف الذكر.
بدورها ميلشيا «قسد» ذهبت نحو افتعال توتر أمني خرج إلى العلن في الثاني من الشهر الثاني وملعبه مدينة القامشلي، عندما أطبقت حصارها على حيي «طي وحلكو» في وسط المدينة، على الرغم من أن بدء التصعيد كان قد حصل منذ 12 من شهر كانون الأول الماضي، أي بالتزامن مع بدء التصعيد التركي في بلدة عين عيسى، والمؤكد هو أن تصعيد «قسد» كان قد جاء بإملاء أميركي سعت واشنطن من خلاله إلى إعطاب الاتفاق الروسي الموقّع مع «قسد» الشهر الماضي والذي كان يقضي بتسليم البلدة إلى الجيش السوري، هذا الإملاء الذي سارعت «قسد» إلى الاستفادة منه كان من النوع الخادم لسياساتها، فهي مضت إلى افتعال التوتر في القامشلي كنوع من تخفيف الضغط عليها في بلدة عين عيسى، وهي بذلك تريد القول إن البديل من خسارة هذه الأخيرة هو ربح القامشلي، والمؤكد هو أن هناك خطأ كبيراً في حسابات الميليشيا كان قد حصل، ولربما يبرره هنا حجم الضغوط التي تتعرض لها في شتى الاتجاهات، فمحاولة السيطرة على المربع الأمني بالقامشلي لم تفشل وحسب، بل باتت تهدد في تداعياتها إمكان خسارة «قسد» لسيطرتها على مناطق في شمال حلب ومنبج، وهو سيناريو ستذهب موسكو إلى دعم خيارات الجيش العربي السوري فيه، انطلاقاً من إستراتيجية روسية ترى أن زعزعة سيطرة «قسد» في أي من المناطق التي تسيطر عليها أمر من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة الوجود الأميركي في الشرق السوري.
تل أبيب لم تكن غائبة هي الأخرى عن الاستثمار في هذا الوقت الضائع، بل لربما يمكن القول إنها جهدت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة لتوسعة فتحة «البيكار» التي ترسمها ضربات الطيران الإسرائيلي، ظهر ذلك في الضربات التي وجهها هذا الأخير على دير الزور والبوكمال يوم الأربعاء 13 من كانون ثاني الجاري، ولربما جاءت تلك الضربات كما جرت العادة بذريعة استهداف الوجود الإيراني في سورية، إلا أن خلفية المشهد تقول غير ذلك، فالراجح هو أن القيام بتلك الضربات كان قد جاء بهدف التخفيف من الاحتقان الحاصل في الجنوب السوري، والذي تشير تقارير إلى أن تل أبيب ترى فيه خطراً يتهدد أمنها واستقرارها، فقد نشرت وسائل إعلام روسية قبل أيام عدة تقارير قالت إنها تستند فيها إلى معطيات إسرائيلية، وهي في مجملها تعطي نسبة عالية لاحتمالية نشوب حرب بين إسرائيل من جهة، وبين سورية مدعومة بإيران من جهة أخرى، حتى إن صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية كانت قد قالت: إن «سيناريو تحول الجنوب السوري إلى ساحة حرب يعود أقرب إلى التنفيذ خلال عام 2021»، والصحيفة كانت قد استندت إلى تقرير من معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب جاء فيه: «إن الجيش السوري والفصائل الإيرانية الداعمة له باتت قادرة على زيادة دقة ضرباتها على المواقع الإسرائيلية بشكل كبير»، وتحليل الصحيفة، المستند إلى توقعات قادة في الجيش الإسرائيلي، لم يقف عند هذه الحدود، بل ذهب بناء على تلك التوقعات إلى تقدير يقول إن تل أبيب تجد نفسها «مضطرة» لتوسعة رقعة ضرباتها في ظل تزايد المخاطر التي تتهددها من مختلف الجبهات، والتوقعات إياها أشارت إلى إمكانية أن تكون هناك جبهة جديدة قيد الافتتاح، وهي تحمل في تباشيرها إمكان تعرض إسرائيل لهجمات صاروخية من المناطق الشمالية الغربية في اليمن.
باتت الأزمة السورية اليوم في قلب تحولات جيوسياسية تشهدها المنطقة برمتها، ومن الممكن القول إن الأحداث التي شهدتها هذه الأخيرة بدءاً من الصيف الماضي الذي شهد توقيع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، ثم وصولاً إلى قمة العلا مطلع هذا الشهر التي كان عنوانها الأبرز هو المصالحة الخليجية، هذه الأحداث سترمي بحمولاتها على الأزمة السورية التي من المرجح أن تشهد تحولات مهمة هي في جلها من النوع المعيق لحركة العربة التي تسير على سكة الحل، صحيح أنه من المرجح أن تشهد المرحلة التي ستلي الحدث الأميركي المرتقب يوم 20 كانون الثاني الجاري هدوءاً على مختلف الجبهات سابقة الذكر، حيث الترجيح سابق الذكر نابع هنا بالدرجة الأولى من حالة احتياج أميركية داخلية ستسعى إدارة بايدن المقبلة من خلالها إلى تثبيت مواقعها، ثم المضي في محاولات إعادة اللحمة لنسيج تهتك بنيانه بدرجة ليست قليلة، إلا أن ذلك لا يلغي أن تلك المرحلة ستحمل معها هبات ساخنة جنباً إلى جنب مع نظيرتها الباردة، والسخونة هنا ستكون بفعل مضيّ اللاعبين الإقليميين الذين سيجهدون في تجميع أوراقهم لوضعها على طاولة المفاوضات الأميركية الإيرانية قبيل انطلاقتها المرتقبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن