قضايا وآراء

داعش: «البداية والنهاية»

| عبد المنعم علي عيسى

نشر تنظيم داعش على حسابه تيليغرام في الثاني من شهر كانون الثاني الجاري فيلماً وثائقياً بعنوان «البداية والنهاية»، وفيه جرى رصد محطات بارزة بدءاً من افتراقات الأيديولوجيا مع فرق «جهادية» تحالف معها أو هي خرجت أساساً من نسيجه، وصولاً إلى الافتراقات الحاصلة مع قوى خارجية كان لفترة قد ظن أنها رمت بثقلها لإنجاح مشروعه، والظن لا شك كان يحمل في مرحلة من المراحل مشروعية يمكن البناء عليها، بدليل ما ذكرته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي قالت في مذكراتها الصادرة بعيد تركها لمنصبها السابق الذكر «أن واشنطن كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية على جزء من أراضي سورية والعراق صيف العام 2014».
في بداية الفيلم يقول الصوت المرافق الذي يمثل هنا دور المتحدث باسم التنظيم «إذا أردت بناء وطن فضع في مسدسك عشر رصاصات، تسع منها للخونة وواحدة لعدوك، لكن من يدري لعلك تحتاج إلى كل الرصاصات للخونة»، كان ذلك مقدمة، وتسويغاً، للأحداث التي سيعرض لها الفيلم لاحقاً.
يروي الفيلم كيف كان التنظيم يرقب الأوضاع في سورية منذ بدء الاحتجاجات في آذار من العام 2011، ثم يقول إنه قرر إرسال أسلحة وأموالاً ورجالاً من العراق تحت مسمى «جبهة النصرة لنصرة أهل الشام»، ومن ضمن هؤلاء كان أبا محمد الجولاني الذي سرعان ما انخرط في قضايا فساد وتلونات أيديولوجية وفق الرواية نفسها، الأمر الذي استدعى إرسال «أبي علي الأنباري» الرجل الثاني في التنظيم للوقوف على صحة تلك التقارير التي كانت ترد إلى القيادة في العراق، وفي التقييم الذي قدمه الأنباري لهذي الأخيرة جاء توصيف الجولاني بأنه «شخص ماكر، ذو وجهين، يحب نفسه ولا يبالي بدين جنوده، ويطير فرحاً إذا ما ذكر اسمه في الفضائيات»، هذا التقييم استدعى مجيء أبي بكر البغدادي بنفسه للقاء الجولاني الذي بدأ اللقاء بـ«مسرحية بكاء»، وما جرى هو أن «أبا ماريا القحطاني» شرعي النصرة كان قد تدخل لسحب فتيل الانفجار، وأصر على تجديد البيعة للبغدادي الذي أصر بدوره على إلغاء اسم «جبهة النصرة» ودمجها مع تنظيم العراق تحت مسمى «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام»، الأمر الذي دفع بالجولاني إلى إعلان بيعته لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة.
هذا مهم لفهم تضارب الخط السياسي ما بين التنظيمين، فتنظيم الدولة، كما أشار الفيلم، كان يرى أن الجماعات «الجهادية» كلها هي التي يجب أن تبايع تنظيم الدولة لا العكس، على حين أن مبايعة الجولاني للقاعدة كانت هروباً نحو السلطة والنفوذ حتى رغم كلفه السياسية الباهظة، إذ من المعروف أن القاعدة منذ تأسيسها على يد أسامة بن لادن العام 1988 كانت قد اختارت في نهجها خيار إعلان الحرب على الغرب بوصفه «أكبر الشرور»، على حين ارتأى تنظيم الدولة الإسلامية أن ذلك الخيار الذي يسعى نحو «العالمية» سيكون خياراً تدميرياً خصوصاً بعد الضربات التي تلقاها في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001، ولذا فإن خياراته مضت نحو اعتبار نفسه تنظمياً مناطقياً، همه هو محاربة «كفار» الداخل، كان الهدف من ذلك بالتأكيد هو مناغاة مشاعر الغرب الذي لم يعد مصنفاً على لوائح استهداف التنظيم، وللوهلة الأولى كاد الأميركيون يبتعلون الطعم بدليل اعتراف كلينتون الآنف الذكر، فيما بعد سيتنبه الجولاني للأمر عبر إعلانه الانفكاك عن تنظيم القاعدة أواخر تموز من العام 2016 من دون أن يحقق الإعلان مراميه لأنه كان من الصعب تجريب الطعم نفسه على السمكة نفسها.
هناك الكثير من النقاط التي يمكن التوقف عندها في رواية التنظيم التي حملها الفيلم مما لا يتسع المجال له هنا مثل أحداث ريفي اللاذقية وحماة العام 2013، وذهاب الأميركيين إلى استنساخ ظاهرة «الصحوات» العراقية في سورية، لكن كخلاصة يمكن القول إن التنظيم أراد القول إنه ليس صناعة غربية كما أشارت إليه العديد من الدراسات، أما توقيت العرض فهو محاولة للقول إنه موجود، بل قادر على إثبات نفسه على أنه تنظيم عابر للحدود من جديد، ولربما كان الهدف من وراء ذلك الإثبات الذي ترافق بنشاط واضح مؤخراً في مناطق البادية السورية وكذا العراقية، هو دفع القوى الفاعلة في الصراع نحو تغييرها لأولوياتها، التي لم يعد التنظيم من بينها، بعيد إعلان الانتصار عليه في الباغوز في آذار 2019، والفعل في شقه السوري قد يهدف إلى تراجع الاهتمام بجبهة إدلب التي احتدمت ما بعد هذا التاريخ، بل كاد الفعل يعيد هذي الأخيرة إلى السيادة السورية صيف العام الماضي وخريفه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن