قضايا وآراء

أزمة الديمقراطية في أميركا

| بقلم د. قحطان السيوفي

مشهد اقتحام الغوغاء من أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومشهد ٢٥ ألف جندي أميركي لحماية تنصيب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن هذان المشهدان يثيران تساؤلات؛ حول أزمة الديمقراطية الأميركية؟!
المشهد العالمي اليوم يشير إلى أن الديمقراطية الأميركية لم تعد نموذجاً كما كان يعتقد البعض، فبعض المراقبين يقرؤون في الحدث شكلا من أشكال «بداية مسيرة النهاية» لـلديمقراطية الأميركية، حيث أطلقت بعض دوائر السياسة في أوروبا التكهنات حول نهاية أميركا كقائدة على الساحة الدولية، ورأى الإستراتيجي المسؤول في «مجلس العلاقات الخارجية»، الأميركية، ريتشارد هاس: أن أعمال الشغب نقطة انطلاق للنظام العالمي في مرحلة (ما بعد أميركا).
الفكرة القائلة إن أميركا ستفقد موقعها القيادي ليست بالجديدة؛ فعالِم اللغة الأميركي المتقاعد نعوم تشومسكي، تحدث عن هذا الطرح لسنوات، حتى النجم التلفزيوني الهندي الأميركي فريد زكريا كتب كتاباً عن «موت الحلم الأميركي»، وأعادت واقعة اقتحام مبنى الكونغرس إلى الأذهان الحديث عن «نهاية أميركا» و«موت الحلم الأميركي».
وصف المتحدث باسم السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أعمال الشغب واقتحام الكابيتول بأنها «غير مسبوقة في الديمقراطية»، ويفترض أنها مؤشر على التراجع الأميركي.
خلال نحو أربعين سنة؛ مرت السياسات الخارجية الأميركية بمرحلتين خلال عقدين من الحرب الباردة (1970-1990)، ثم خلال ما يُعرف بحقبة الهيمنة الأميركية (1990-2007)، وفي المرحلتين، برزت ظاهرتان؛ الانتصار الأميركي في الحرب الباردة، وعلى هذه الشاكلة، جاءت أطروحات فوكوياما وهنتنغتون، بشأن نهاية التاريخ وصدام الحضارات والعولمة، أما الظاهرة الأخرى فهي بروز نُخَب سياسية أميركية، عُرفت بالمحافظين الجدد، يدعون إلى إدخاله في العالم لنشر أفكارهم بالقوة إذا اقتضى الأمر.
ما تزال بيروقراطية المؤسسات الفيدرالية منحصرة في الحزبين؛ لكنّ ظاهرتي الرئيسين رونالد ريغان ودونالد ترمب، يمكن أن تنتج حزباً أو أكثر خارج الجمهوريين، كما أن راديكاليات السود واللاتين، يمكن لها أيضاً أن تنتج أكثر من حزب خارج الديمقراطيين، وانفجرت الشعبوية في عهد ترمب بالذات لأن فئات كثيرة بيضاء متوسطة التعليم، شعرت بانحسار شديد لأدوارها.
البيض المهمشون خافوا من ظاهرة الرئيس باراك أوباما الأسود، ولذلك تشاركوا هم «The Crowd» وترمب معاً في إنتاج الشخصية التي اعتقدوا أنها تمثّلهم، وترمب اشتهر بـالهجوم على المؤسسات وتجاهل القوانين والأعراف، وراح يتصرف مثل «راعي البقر».
إن الشعبوية الجديدة البيضاء ترى أن البلاد الشاسعة لا تتسع لها وللآخرين المختلفين، وأمام هذا الوضع السياسي المضطرب، يطرح الأميركيون ومعهم معظم المراقبين تساؤلات؛ هل اهتزت صورة الولايات المتحدة أمام العالم وهل أثر ذلك على مسار الديمقراطية الأميركية؟ وهل إصابة الديمقراطية الأميركية بالطريقة التي تم التصويب عليها يشجع الشعبويين وأصحاب الأيديولوجيات المتطرفة على التشبه وتنفيذ ما حصل في أميركا؟ وإلى أين تذهب أميركا؟ وهل هذا الهجوم يشكل انحرافا، أو عرضاً لاعتلال وطني أشد عمقاً؟
الواقع، أنه وعلى مدار ما لا يقل عن ربع قرن من الزمن، أدرك الحزب الجمهوري أنه لا يستطيع تمثيل مصالح نخب الأعمال إلا من خلال تبني تدابير مناهضة للديمقراطية والتضامن مع حلفاء من أمثال الأصوليين الدينيين، والمؤمنين بتفوق الجنس الأبيض، والشعبويين القوميين.
سمح النظام السياسي في أميركا، حيث السيادة للمال، لشركات التكنولوجيا العملاقة بالتحرر من المساءلة، كما عمل هذا النظام السياسي على توليد مجموعة من السياسات، يشار إليها أحياناً بوصف النيوليبرالية، التي قدمت مكاسب هائلة في الدخل والثروة لأولئك على القمة.
كان الوعد النيوليبرالي بأن مكاسب الثروة والدخل ستتقاطر إلى أسفل ليستفيد منها أولئك الذين عند القاع، زائفا في الأساس، وحذر البروفسور الأميركي المعروف في كتابيه «ثمن الظلم» و«الشعب والسلطة والأرباح» جوزيف ستيجليتز، من أن هذا المزيج السام أتاح فرصة مغرية لكل راغب في أن يصبح زعيماً للدهماء.
الواقع أن روح المبادرة التجارية بين الأميركيين، المقترنة بالافتقار إلى القيود الأخلاقية، توفر كماً من الدجالين، والمستغلين، وزعماء الدهماء.
الديمقراطية الأميركية تلقت ضربة موجعة، في إحدى أهم ركائزها في الدستور الأميركي، أي الكونغرس بمجلسي النواب والشيوخ في «هجوم غير مسبوق» وفي موعد دستوري، كان بموجبه ممثلو الشعب بمجلسي النواب والشيوخ يعقدون جلسة التصديق على فوز جو بايدن في السباق الرئاسي.
لم يكن أحد يتصور أن تجرؤ جماعات يمينية، على اقتحام مقر الكونغرس الأميركي.
لم يكن أحد يعتقد أن ينهار الإدراك السياسي لمجموعات يمينية متطرفة، ترفض نتيجة الانتخابات الرئاسة الأميركية إلى هذا المستوى المتدني.
حسب تقدير الخبير السياسي الأميركي دانييل زيبلات، مؤلف كتاب «كيف تموت الديمقراطيات»، فإن ثقافة الحوار في الولايات المتحدة تعاني من «انهيار طويل للاعتراف المتبادل».
أجرى الصحفي الأميركي جيفري غولدبيرغ من صحيفة «الأتلانتيك» حواراً مطولاً مع وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، نُــشر بتاريخ 15 تشرين الثاني 2016، سأل غولدبيرغ الوزير المخضرم عن رأيه: هل سيتسبب وصول ترمب إلى الرئاسة في تسريع تراجع الولايات المتحدة؟ فأجاب كيسنجر: «إنه من المرجح أن يؤدي فوز ترمب إلى حدوث صدمة، ستساهم في خلق فرصة لحدوث تراجع واضطراب خطيرين».
اقتحام أنصار ترمب لمبنى الكونغرس الأميركي، أثبت صحة توقعات كيسنجر، ويقول دانييل زبلات من جامعة «هارفارد مؤلف كتاب «موت الديمقراطيات»: «الشيء المؤكد أن اقتحام مبنى الكابتول ليس مجرد حركة احتجاجات عفوية أو تمرد، وإنما أرجح أن يكون ذلك نوعاً من الشغب والعنف السياسي المنظم، كان هدف الرئيس ترامب السعي إلى الإطاحة بالديمقراطية لأغراض شخصية بحتة.
أحد أساتذة الاقتصاد، توماس بيكيتي، أعطى تفسيرات وقراءة لاقتحام الكونغرس الأميركي، مذكراً بتاريخ نشأة الولايات المتحدة منذ البدء، حيث تأسست الولايات المتحدة على العنف وعدم المساواة، فمن جهة: اعتمد الجنوب الأميركي على نظام العبودية، وكان خمسة عشر من الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا على السلطة حتى وصول أبراهام لينكولن إلى الرئاسة في عام 1861، عشرة منهم كانوا ملاكاً للرقيق السود، أعلنت الولايات الجنوبية انفصالها، واندلعت الحرب الأهلية بين الطرفين في الفترة 1865-1861، وقتل فيها نحو 620 ألف جندي.
وعند اقتحام الكونغرس الأميركي، رفع البعض علم الكونفدرالية الذي يرمز إلى الولايات الجنوبية، مما يدق ناقوس الخطر على وحدة الولايات المتحدة.
أميركا لا تختلف رغم كل ما تدعيه من حرية وديمقراطية عن دول العالم الثالث فما جرى نتاج طبيعي لأربع سنوات من الخطاب العنصري الشعبوي في عهد ترامب، ومن الواضح أن أميركا أمام تحولات أخطر ما فيها أن الصراع بين مكونات المجتمع قائمة على عدم الثقة بالمؤسسات والدستور والمواطنة وقوانين السلام الاجتماعي، وواقعة اقتحام الكونغرس أظهرت أزمة الديمقراطية في أميركا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن