ثقافة وفن

الدور الأكبر في عملية تعزيز النشاط الابتكاري يقع على عاتق الحكومة … سورية واقتصاد المعرفة.. الواقع والتحديات

| شريف عماد هلال  - ماجستير في إدارة الابتكار

يعد اقتصاد المعرفة أحد أهم التوجهات الاقتصادية في البلدان المتطورة، إذ يتم النظر إليه في الأدبيات الاقتصادية على أنه المحرك الرئيس لعجلة التنمية الاقتصادية في البلدان المتطورة أو حتى في البلدان النامية. وتسعى الحكومات لوضع برامج وخطط لتعزيز الانتقال نحو اقتصاد المعرفة لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة.
اقتصاد المعرفة هو مفهوم يستند إلى رأس المال الفكري لخلق قيمة مضافة في العملية الإنتاجية، ويشير إلى القدرة على الاستفادة من الاكتشافات العلمية والبحوث الأساسية والتطبيقية في تطوير المنتجات والخدمات، كما يتم النظر إلى المعلومات كرأس مال غير مادي، حيث إنه بالنسبة للشركات المتطورة تعد براءات الاختراع والأسرار الصناعية والمواد المحمية بحقوق النشر والتصنيع، ذات قيمة عالية في عملية الإنتاج.

تعتبر الدراسات الاقتصادية نموذج اللولب الثلاثي(Triple helix) الأساس النظري لمفهوم اقتصاد المعرفة، ويتألف نموذج اللولب الثلاثي من ثلاثة عناصر رئيسية مترابطة (المؤسسات الأكاديمية، المؤسسات الصناعية، الحكومة). حيث إن العلاقة بين الجامعات والمؤسسات الصناعية تسهم في عملية نقل التكنولوجيا ونتائج البحث العلمي من الجامعات إلى السوق. كما تتمتع الحكومات بدور مهم في هذا النموذج، حيث تلعب دوراً أساسياً في رسم الخطط والسياسات لتسهيل التعاون بين الجامعات بوصفها مصدراً للمعرفة والشركات الصناعية بصفتها وسيطاً لنقل نتائج البحوث والتطوير. كما يجب أن تشمل هذه الخطط تحفيزات للجامعات لكي تؤدي أدواراً بحثية وابتكارية إضافية غير الأدوار التقليدية التعليمية. ويقع على عاتق الحكومة إعداد البرامج الخاصة لتشجيع جميع مكونات هذا النظام على التفاعل فيما بينها لتحقيق الأهداف المنشودة، والوصول إلى اقتصاد مبني على المعرفة.
تنص النظريات الاقتصادية أنه لنشوء نظام اللولب الثلاثي يجب أن يحدث الانتقال من التنمية الصناعية إلى التنمية الابتكارية، ولتحقيق ذلك يجب أن تبدأ العلاقات بين عناصره الثلاثة (المؤسسات الأكاديمية، المؤسسات الصناعية، والحكومة) بالنشوء على المستوى الاستراتيجي، ونشوء هذه العلاقات يتطلب وجود مؤسسات وسيطية بين هذه العناصر الثلاثة مثل حدائق التكنولوجيا (techno-park) حيث تتفاعل الشركات مع الجامعات والمخابر البحثية بدعم وتسهيلات من الحكومة. يمكن أيضاً ذكر مثال تأسيس شركات ابتكارية ناشئة من قبل الجامعات، حيث تتكامل وظيفة الجامعة العلمية والبحثية مع التوجهات المطلوبة نحو السوق، وعن طريق هذه المؤسسات الوسيطة تنشأ شبكة من العلاقات الوثيقة بين عناصر النموذج الثلاثة، وبنتيجة هذه العلاقات تستطيع الجامعات تسويق ونقل نتائج الأبحاث لديها إلى السوق بشكل أسرع وأكثر فعالية. كما أنه بنتيجة هذه العلاقات تنخرط الشركات الصناعية بشكل أكبر في النشاط العلمي والبحثي. وتتيح هذه التجارب للحكومات تعزيز برامجها لتنشيط التعاون بين الشركات الصناعية والمؤسسات الأكاديمية. تجدر الإشارة إلى أن تشكيل العلاقات بين عناصر نموذج اللولب الثلاثي يتطلب من كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة أن يحدث تغييرات في بنيته لكي تلائم أداء الوظائف الجديدة المعني بها وفقاً للنموذج الجديد.
لتحقيق تنمية العملية الابتكارية على المستوى المحلي يجب العمل على تقوية العلاقات بين جميع عناصر نموذج اللولب الثلاثي: حيث يجب على الجامعات المشاركة بفعالية في عملية البحث والتطوير لتحقيق قيمة مضافة في عملية تطوير منتجات جديدة وكسب ثقة القطاع الصناعي بالإضافة إلى وظيفتها التعليمية الأساسية في إعداد الكوادر المؤهلة، كما يجب على الجامعات مواصلة الأبحاث في التوجهات الحالية في السوق. بينما ينبغي على الشركات الصناعية السعي نحو تفعيل الشراكة مع المؤسسات الأكاديمية لجذب نتائج البحث والتطوير من هذه المؤسسات إلى السوق، كما يقع على عاتق هذه الشركات ممارسة دور القائد للأبحاث التي تجري في المؤسسات الأكاديمية وتوجيهها بما يخدم مصالح هذه الشركات. وفي هذه العملية يقع الدور الأهم على عاتق الحكومة عن طريق إعداد السياسات والبرامج التحفيزية لتنشيط العلاقة بين المؤسسات الصناعية والأكاديمية، وبالتالي لتشجيع تسويق التكنولوجيا والابتكارات.
في البلدان النامية عادةً ما يبقى التعاون بين الشركات الصناعية والمؤسسات الأكاديمية في حدوده الدنيا. حيث تلعب الحكومات أدواراً متناقضة في عملية تحفيز الاقتصاد، فتارةً تقدم بعض الحوافز بينما تلجأ بعض السياسات الحكومية في بعض البلدان إلى إجبار الجامعات على أداء وظائف مختلفة عن وظائفها التعليمية الأساسية لمحاولة دفعها لأداء دورها في إدخال قيمة مضافة إلى الاقتصاد. بينما في البلدان المتطورة تلعب الحكومات دوراً محورياً في تنشيط وتعزيز النشاط الابتكاري لتطوير الاقتصاد، عن طريق سياسات مدروسة، وتسهيلات للقطاع الصناعي لدفعه نحو التعاون مع المؤسسات الأكاديمية. كما تجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي تحاول المؤسسات الدولية والإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي أن تلعبه، عن طريق تقديم المساعدة لتحقيق التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة في العديد من البلدان.
أما إذا أردنا الحديث عن العناصر الثلاثة لنموذج اللولب الثلاثي في سورية والأدوار الفعلية التي تمارسها، فإن جميع هذه العناصر تقف على مسافة بعيدة من الأدوار التي ينبغي عليها تنفيذها للوصول نحو اقتصاد المعرفة، وما يؤكد هذا التوصيف هو موقع سورية المتراجع في التصنيفات التي تقوم بإعدادها المؤسسات الدولية المتخصصة في مجال الدراسات الاقتصادية، حيث يتم قياس نسبة تحقيق اقتصاد المعرفة عبر عدة مؤشرات ومعاملات منها ما هو متعلق بنسبة تأثير المكون المعرفي على قيمة السلع والمنتجات التي يتم إنتاجها، ومنها ما هو متعلق بآليات حماية الملكية الفكرية وعدد براءات الاختراع التي يتم منحها سنوياً، كما يتم النظر إلى عدد حدائق التكنولوجيا (techno-park) والحواضن التكنولوجية والشركات الناشئة التكنولوجية.
يقتصر دور الجامعات في سوريا في المجمل على الوظيفة التعليمية التقليدية، ويؤدي انخفاض أعداد الكوادر العلمية في الجامعات بالنسبة إلى عدد الطلاب إلى انشغال الكادر العلمي في المهمات التدريسية عن المهام البحثية، والجدير بالذكر أن أعداد الكوادر العلمية مستمر بالانخفاض نتيجة التبعات التي فرضتها الأزمة، وعدم عودة نسبة كبيرة من الموفدين وفقاً لإحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في سورية، وبذلك يقتصر دور الجامعات في سلسلة اقتصاد المعرفة على إعداد الكوادر المؤهلة، ولعل تراجع عدد المنشورات العلمية في الجامعات السورية بالمقارنة مع دول الجوار أبرز الدلائل على اقتصار الوظائف التي تؤديها الجامعات على الوظائف التدريسية، وإهمال الوظائف البحثية والابتكارية.
أما المؤسسات والشركات الصناعية فهي تمارس صناعات قديمة نسبياً من دون بروز الحاجة لديها للاستثمار في البحث والتطوير، ولهذا عدة أسباب: منها أن الاستثمار في البحث والتطوير يعد استثماراً عالي المخاطر، حيث إن احتمالات عدم تحقيق الفائدة المادية كبيرة في هذا النوع من الاستثمارات، فلا بد من توافر تسهيلات وحوافز حكومية لإقناع القطاع الصناعي بأهمية الاستثمار في البحث والتطوير، كما أن ضعف الثقة المتبادلة بين القطاعين الصناعي والأكاديمي في سورية يعتبر عاملاً مهماً في غياب التعاون بين هذين القطاعين، حيث إن النظرة السائدة في الوسط الصناعي اتجاه الأبحاث الجامعية بأنها أبحاث نمطية غير قادرة على حل المشاكل التي تواجه الصناعيين. وهذا ما أدى إلى بقاء التعاون بين هذين القطاعين في حدوده الدنيا مقتصراً على خدمات محدودة يقدمها أحدهما للآخر كإجراء قياسات على أجهزة تتوافر عند أحدهما دون الآخر.
الدور الأكبر في عملية تعزيز النشاط الابتكاري يقع على عاتق الحكومة، فمع غياب البرامج والمحفزات لهذا التعاون بين القطاع الأكاديمي والصناعي من غير المجدي أن ننتظر حدوث مبادرات فردية في هذا المجال، لأن تلك المبادرات لدفع التعاون بين هذين القطاعين يجب أن تتسم بالأهداف الاستراتيجية. يشكل غياب القوانين التي تنظم العلاقات بين مختلف الجوانب في قطاع البحث والصناعة وريادة الأعمال الابتكارية أحد أهم العوائق للانطلاق نحو اقتصاد المعرفة، حيث تتطلب ريادة الأعمال الابتكارية بيئة ذات متطلبات خاصة، لا يمكن لريادة الأعمال الابتكارية والتعاون بين القطاعين الصناعي والأكاديمي تحقيق النجاح مع غياب القوانين والتسهيلات الحكومية والبنى التحتية اللازمة لذلك من مسرعات وحواضن تكنولوجية ومراكز دعم واستشارات. ولعل أهم متطلبات نجاح هذا النوع من النشاط هو توافر بيئة وقوانين خاصة بحماية الملكية الفكرية، ففي هذا النوع من الصناعات تعتبر المعرفة هي رأس المال الأثمن، والحفاظ على حقوق الاستثمار والتصنيع هو الضامن الوحيد لاستمرار نمو هذا النوع من الصناعة.
أصبح توجه سورية نحو اقتصاد المعرفة خطوة لا بد من تحقيقها لتجاوز آثار الأزمة التي مرت بها سورية، حيث يضمن التوجه نحو اقتصاد المعرفة تحقيق النمو الاقتصادي في ظل وجود أعداد كبيرة من الكوادر المؤهلة والموارد التي لا يتم استثمارها في الشكل والمكان الصحيح. ومن شأن اتباع هذا النمط أن يعزز مفهوم الاعتماد على الذات في العديد من الصناعات، والانطلاق في مراحل تالية نحو الأسواق المجاورة والعالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن