قضايا وآراء

أما وقد دخل «الحلم الأميركي» مرحلة الانكسار

| عبد المنعم علي عيسى

بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الأميركية أهدت فرنسا لأحفاد هذي الأخيرة تمثالا سيصبح الأشهر في هذا العالم، وهو سيحمل اسم تمثال الحرية الذي جرى نصبه على شواطئ نيويورك في شهر تشرين الثاني من العام 1886، وهو، أي التمثال، يظهر بصورة امرأة ترنو إلى ما وراء المحيط وهي تحمل بيمينها شعلة، وكأنها تريد القول لمن هم على الضفة الأخرى من الأطلسي «أرسلوا إلي كل المقهورين والمظلومين، فدياري تتسع لكل هؤلاء».
من المؤكد أن التجربة التي مرت بها الولايات الخمسون منذ اتحادها، كانت قد عاشت لفترة طويلة، ذلك النفس بدرجة كبيرة، نفس ترعرع الحلم وانتعاشه، ولا يمكن النظر إلى ذلك الأمر فقط من ناحية بعده الإنساني الذي فرضته الأحلام التي عاشها جيل المؤسسين الذين أرادوا جعل بلادهم ملاذاً للمهاجرين ممن لم تتسع بلدانهم لأحلامهم، فالنظرة هنا لا تستوي إلا بالقول إن ذلك النفس الذي استمر لفترة طويلة، كان قد استمد جذوة الفعل بسبب ما حققته موجات المهاجرين من نتائج كانت في أغلبيتها إيجابية في نواح عدة، بدءاً من ضخ دماء جديدة في مجتمع كان يعاني أصلاً ضعفاً في نقاطه الارتكازية بفعل تناحرية السكان الجدد مع السكان الأصليين، ومروراً بأن تلك الموجات كانت قد حملت في أحايين عدة نخبا وعلماء أضافوا لدولة اللجوء الكثير، ولعل تلك الظاهرة أضحت ثقيلة بدرجة كبيرة في أتون الحرب العالمية الثانية، وما تلاها، حيث استقبلت أميركا عشرات الآلاف من العلماء والكتاب والمفكرين الذين دفعوا بعجلة التقدم الأميركية بسرعات ضوئية، ثم وصولاً إلى حالة فريدة يمكن تسميتها نجاح عملية «التلاقح الحضاري» الذي أتاحته ظاهرة المهاجرين، التي كانت الجغرافيا الأميركية مسرحاً لها، في وقت كانت فيه القارة الأوروبية تعيش أحوالاً من التنافر وصعوبة التعايش بين شعوبها الذي وصل عدة مرات إلى حروب دامت عقوداً وعقوداً، وهي لم تنته إلا بعد أن تركت الكثير من الندبات التي لم تزل بمرور الوقت.
هذا الحلم الذي تنامى بفعل احتياجات النموذج بالدرجة الأولى، بدأ مرحلة من الانكسار ملحوظة لربما أمكن تلمسها في التداعيات التي أفرزتها المرحلة التي أعقبت أحداث أيلول 2001 حيث فرضت تلك المرحلة من حيث النتيجة تعويم الهاجس الأمني على كل الهواجس الأخرى، لكن اللحظ بدا فاقعاً في مرحلة حكم الرئيس دونالد ترامب الذي مضى في اتخاذ قرارات، بغض النظر عن موجباتها التي كانت كثيرة لدى هذا الأخير، فإنها كانت تمثل تعبيراً عن انكسار الحلم، أو بمعنى آخر تحطم أمواجه عند صخور الواقع، سلسلة القرارات ستطول وتطول، لكن أبرز حلقاتها كانت في بناء الجدار العازل مع المكسيك، ثم قرار منع الهجرة الذي لم يكن مبرراً، أيا تكن دواعيه، تحت سقف «الحلم» على الرغم من التلوينات التي جاء عليها، ثم انتهاج خطاب عنصري ذي صبغة عرقية كان في تراسيمه ثقيل الوطأة على النموذج.
الآن، أما وقد أظهر الحلم تشققات لن يكون علاجها بالأمر اليسير، بل لربما تشير في عمقها إلى لا «واقعيته» بدرجة ما قياساً إلى تضاربه في محطات عدة مع احتياجات الدولة والنموذج، فإن التحدي الأكبر يتمثل في محاولة ترميم بقاياه، والفعل يجب أن يبدأ أولاً من النسج الدنيا التي أظهرت سلوكيتها في محطات عدة «كفراً» بمعالم ذلك الحلم، بل البعض من هذي الأخيرة بات يرى فيه كابوساً آن له أن ينقضي أو تزول إرهاصاته، وصولاً إلى نخب ثقافية وفكرية وأدبية، تكون مؤمنة ومدركة في آن، بأن الاستمرار الذي يعني هنا العودة إلى التوهج الذي شهده المشروع في البدايات، بات يحتاج إلى زخم يقع في جزء منه على عاتق أفكارها التي تنتجها، وهي بالضرورة يجب أن تكون قادرة على إحداث انحراف في الوعي العام الذي شهد انحرافاً في الآونة الأخيرة باتجاه معاند للمشروع، ومعاند أيضاً للمهمة التي تقع على كاهلها اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن